عبده خال .. عاشق الحارة وراسم كيان القرية وناشر بذور الحكايات الطويلة والناطق بلسان المهمشين!

عبده خال .. عاشق الحارة وراسم كيان القرية وناشر بذور الحكايات الطويلة والناطق بلسان المهمشين!

بحث عن مغن في ليل طويل، وأيقن أن ليس في المدن ما يبهج، صور تفاصيل الحارة القديمة، والتقى في مسرح الحياة الجموع المسحوقة والمهمشة وهمس في آذانهم بحثاً عن نموذج من بينهم ليكون بطلاً لحكاية لا تنتهي، سجل صرخات تلك الجموع، ودون أحلامهم وطموحهم وانكساراتهم، شم رائحة الطين، ورسم كيان القرية، واستوحش المدن التي تأكل العشب! لا يعرف كيف بدأ، فقد ضاعت تفاصيله في فضائه الواسع بعد أن عرف أن الإنسان ابن بيئته ولا يستطيع أن يخرج عنها، وأن المكان له شخصية ضاغطة على ساكنيه، كما أن المكان هو الذي يشكل الإنسان.
اكتشف عبده خال "أن في كتابة التاريخ هناك أناس مهمشون لا نستطيع أن نجدهم في الروايات فقرر: أن كتب التاريخ لا تحفل كثيراً بهؤلاء وظلوا لقرون طويلة هم البينة التي تصنع الأحداث فتتأثر بها، وهي غائبة في مجال كتابة التاريخ، لأن كتب التاريخ لا تدون حركة المجتمع ابتداء من البداية والنهاية حتى آخر كتاب تاريخي صدر..".
بدأ عبده خال بأول عمل له وكتب: "أن حصان المعركة لا يتذكره التاريخ، فالهامشيون هم أحصنة كل هذه الأحداث لذلك فالتاريخ لا يتذكرهم"، فانتدب نفسه لأن يكون كاتباً عن هذه الفئة، وليس كاتباً تاريخياً، ولكن كاتباً لحركة المجتمع وشاهد عصر ينظر في منطقة قصية للأثر السياسي والاقتصادي والاجتماعي وانعكاسه على هذه الفئة التي لا تجد منفذاً للتعبير بصوتها فتتحول الرواية هنا إلى تاريخ لكنه ليس تاريخاً بالمفهوم المشاع في تسجيل أحلام وطموحات وانكسارات ما يحدث في المحيط العام.
غاص عبده خال في قاع المجتمع، وأثار العديد من القضايا، ونقل عبر مجهره شرائح لا تملك أقداماً تصل بها إلى منابر الكلام، ولا تجد منفذاً للدخول إلى عالم الوضوح والصراحة، فحمل قلمه ومسجله وآلة التصوير وأخذ يسجل آلام وآمال وطموح هذه الشرائح عبر المقالات التي كتبها، أو عبر قصصه التي قدمها وعدها النقاد روايات مضغوطة أو بذورا لها، وشجعه ذلك على إعادة بعض قصصه وتحويلها إلى أعمال روائية.
يؤكد القاص والروائي والكاتب عبده خال الذي استنشق الطباشير، ودس في جيبه الأقلام الحمراء، وركض مع الصغار في مضمار التعليم، ورسم على سبورات الفصول حروف الهجاء، يؤكد أن المكان هو الذي شكل شخصيته، فطفولته التي عاشها لم يكن بها سلوة سوى الحكاية، لقد عاش في قرية – كما يقول – تقترب كثيرا من القرى البدائية، بل إنه عندما يحدث أحداً عنها فإنه سيشك في أن هذه القرية موجودة أو أن واحداً في عمره قد عاش هذه الحياة البدائية والمنغلقة ولا وجود فيها لنافذة تطل منها على العالم سوى "المذياع"، كان اليوم فيها طويلا ومملا وشاقا، ولا يقطع رتابة ذلك سوى الحكاية، وفي هذا الجو سمع الكثير من الحكايات، وسمع الكثير من الأساطير التي تحولت إلى إنزيم مغذٍ لكتابة القصة أو الرواية.
مارس عبده خال كتابة أدب الطفل وأخرج مجموعة المداد، كان فيها يكتب عن نفسه لأن في داخله طفلا يجالسه منذ زمن طويل، وكان في أوقات يحاول أن يستلهم ذلك الطفل الذي كان منزويا في أحد شوارع الهنداوية، فيجلس الصبية لكي يقوم عبده خال لهؤلاء الأطفال، فكان هو الكاتب والمخرج والممثل، لقد أعاد الحكايات ذاتها التي وجدها في الحارة وهو صغير وألقاها بين الأطفال.
لقد تأثر في بعض قصصه ورواياته بأدب الحارة عند نجيب محفوظ وجمال الغيطاني بعد أن أغرق نفسه بأجواء القرية لكنه برع في اختيار النموذج وتسجيله كتابة.
عندما كان في السادسة خرج من قريته في هجرة مبكرة إلى الحج مرافقا لوالدته، كانت الجمال والبغال هي وسيلة النقل في هذه الرحلة العجيبة والتي امتدت أياماً طويلة، كانت قافلة تحمل أناسا رغبوا الانتقال إلى الحجاز، مروا بمناطق مختلفة ساحلية وجبلية وصحراوية وأخرى مقفرة، كانت الرحلة حكاية سجل بعض فصولها في روايته "الموت يمر من هنا" و"مدن تأكل العشب".
عاد إلى قريته مرة ثانية، ثم عاد إلى جدة وبواسطة الوسيلة ذاتها (الجمال والبغال والحمير) ثم قررت والدته السفر إلى الرياض لأن أخاه الراحل أحمد يقطنها، في العاصمة التقط كثيراً من المشاهد والتفاصيل والشخصيات هي محصلة سنوات ثلاث قضاها في المدينة، وبعد أن أنهى دراسته الجامعية توجه شرقا إلى الظهران وهناك أكمل دراسة الدبلوم، ثم التحق بسلك التعليم في عرعر، لقد كان محظوظاً في هذه الرحلات المتعددة والمبكرة واختلفت فيها الأجواء والتفاصيل حيث مكنته من قراءة المكان بشكل جيد، ومعه تحول المكان إلى عشق ثم إلى قصة ورواية.
في فترة التكوين وفي سن القراءات الأولى قرأ عبده خال الأدب المصري، والأدب الشامي، كما قرأ أدبا عالميا، واكتشف أن كتابة الرواية ليست حكرا على أحد فهي ليست ملكا لجار الله الحميد وعبده خال وسعد الدوسري حتى يذودوا عنها بسيوفهم ويبعدوا من أراد كتابتها، الرواية هي فن من حق أي إنسان أن يكتبها لذلك من الحمق أن نذود الشعراء والمفكرين عن حرم الرواية وهذا ليس من حقنا، فأنت عليك أن تتلقى الرواية بالقبول أو الرفض هذا شأنك، فمثلا لو كتب فلاح أو بحار تجربته في قالب روائي ضمن إطار فني مميز ما الذي يمنع أن يكون روائياً؟
إذاً نحن في حاجة إلى تراكم روائي بشكل كبير جداً.
قدم عبده خال أعمالا أدبية حقق في أغلبها نجاحات مميزة، لكن الدراسات النقدية التي كتبت عن إبداعه لم تكن تتناسب مع ما قدمه في السرد السعودي، وعندما سئل ذات يوم عن ذلك أجاب "أن من يكتب لكي يكتب عنه لن يقدم شيئا وعندما لا يكتب عنك النقاد قد يتذرعون بعدم وجود الكتاب في الوقت نفسه، وأنا أرى أنه ليس على المبدع أن يتحول إلى ساعي بريد ليوصل كتابه للنقاد، فأنا أعرف كثيرا من النقاد كل أعمالي الروائية لم تصلهم، ثم أن هذه الإشكالية تتمثل في عدم وجود الكتاب وحضوره بشكل كبير إضافة إلى أن الساحة الثقافية غير جادة وغير صادقة مع نفسها، وفي الأخير تكمن مهمة الكاتب في الكتابة سواء كتب عنك أم لم يكتب أو همشت أو أهملت".

الأكثر قراءة