الأسمنت المورد الأكثر وفرة في العالم بعد الماء بـ 4.2 مليار طن

الأسمنت المورد الأكثر وفرة في العالم بعد الماء بـ 4.2 مليار طن

الأسمنت المورد الأكثر وفرة في العالم بعد الماء بـ 4.2 مليار طن
الأسمنت المورد الأكثر وفرة في العالم بعد الماء بـ 4.2 مليار طن
الأسمنت المورد الأكثر وفرة في العالم بعد الماء بـ 4.2 مليار طن

يشكل وجوه المدائن، وصُلب الأبراج العقارية المشيدة، هو سر المساكن، وروح العمران، ذلك هو الأسمنت، المسحوق الناعم والذي يُعد أحد أعظم اكتشافات الإنسان على كوكب الأرض، فبعد الماء، تعد الخرسانة المورد الأكثر وفرة في العالم - فهي المادة الصناعية الأكثر استخدامًا على هذا الكوكب - حسب الرابطة العالمية للأسمنت وتتشكل وجوه المدن اليوم من 4,2 مليار طن من الأسمنت تحشدها دول العالم في سبيل العمران والحضارة.

وأسهم الأسمنت في نقل الإنسان من سكن الكهوف والأكواخ الخشبية والمساكن البدائية إلى العمران العصري، وعلى الرغم من قسوة المسحوق الناعم حينما يتحول إلى جدران خرسانية صلبة، إلا أن لقصة الأسمنت فصولاً مشوقة، وله تأثير كبير في وجدان الإنسان، فمن الأسمنت تُبنى البيوت التي تترعرع بها أحلام الطفولة والذكريات، ويشكل الأسمنت جدران البنايات التي يخربش عليها الشعراء قصائدهم، ويكتب عليها المتعبون رسائلهم، فقد تزايد ارتباط الأسمنت بوجدان الإنسان كثيراً حتى أصبح اسم الأسمنت في عناوين روايات ودواوين شعرية ومسلسلات وأفلام في مختلف الدول والمجتمعات.

في العام 2024 بلغت قيمة سوق الأسمنت العالمية 423 مليار دولار، ومن المرجح أن تصل إلى 555 مليار دولار في عام 2030. ومن المتوقع أن يصل إنتاج الأسمنت العالمي إلى 5.55 مليار طن في عام 2030، وسوف يرتفع استهلاك الأسمنت إلى 5.54 مليار طن.


اكتشاف غيّر وجه الأرض


وفي السعودية، ارتفعت مبيعات الأسمنت بنسبة 5% على أساس سنوي في الربع الأول من عام 2025، لتصل إلى 2.9 مليار ريال، وفقا لوحدة التحليل المالي في صحيفة "الاقتصادية.. " وفي هذا السياق، أكد الدكتور أحمد بن دعجم - أستاذ العمارة والتصميم العمراني - أن الأسمنت يُعَدّ أحد أهم الاكتشافات التي غيرت مسار الحضارة الإنسانية، فقد ارتبط اسمه بالتحولات العمرانية الكبرى التي شهدها العالم منذ آلاف السنين وحتى عصرنا الحديث.

وبين أن الأسمنت أسهم في تحقيق الأمن الحضري من خلال الموانئ والمنشآت المائية. مؤكداً أن الخرسانة المسلحة التي ظهرت في القرن التاسع عشر أطلقت العنان لاستخدامات الأسمنت في مشاريع كبرى غيّرت وجه البنية التحتية في العالم.

وأشار إلى أنه على الصعيد العالمي، يقدَّر حجم سوق بنحو 650 مليار دولار بحلول 2030، بمعدلات نمو تتراوح بين 4% و6% سنويًا. ويشمل ذلك الخرسانة الجاهزة، مسبقة الصب، ومنتجات البنية التحتية المختلفة.

وبين أن سوق الخرسانة في السعودية يشهد توسعًا متسارعًا مدفوعًا بمشاريع رؤية 2030 العملاقة، مؤكداً أن الدراسات تُظهر أن سوق الخرسانة (بأنواعه) مرشح للوصول إلى أكثر من 78 مليار دولار بحلول 2032، مع نمو قوي في قطاعات الخرسانة مسبقة الصب والكتل الخرسانية بنسبة تتراوح بين 6% و8% سنويًا.


تسلسل زمني لظهور الأسمنت


تشير المصادر التاريخية إلى أن أقدم السجلات للهياكل الخرسانية تعود إلى عام 6500 قبل الميلاد، حيث استخدمها تجار الأنباط في مناطق سوريا والأردن. وقد صنعوا أرضيات خرسانية، وهياكل سكنية، وصهاريج مياه تحت الأرض، بينما استخدم المصريون -3000 قبل الميلاد - الطين الممزوج بالقش لربط الطوب المجفف. كما استخدموا ملاط الجبس وملاط الجير في بناء الأهرامات، كما استُخدم نوع من الأسمنت لبناء سور الصين العظيم في تلك الفترة تقريبًا.

وعلى الرغم من أن الرومان القدماء لم يكونوا أول من صنع الخرسانة، إلا أنهم كانوا أول من استخدمها على نطاق واسع 600 قبل الميلاد، وبحلول عام 200 قبل الميلاد، نجح الرومان في استخدام الخرسانة في معظم مبانيهم.

في العام 1812، عندما طُلب من المهندس لويس فيكا، بناء جسر فوق نهر دوردون، وكانت المهمة معقدة للغاية بسبب قوة دفع المياه الشديدة للنهر وعدم استقرار المجرى المائي، وبعد 6 سنوات من العمل والتجارب توصل فيكا إلى مادة جديدة تعتمد على مزج مسحوق الجير مع الطين، يمكن من خلالها بناء جسر قوي ومتين وبتكاليف قليلة، ليصبح لويس فيكا مخترع الأسمنت في العام 1818م. وبعد إقرار أكاديمية العلوم الفرنسية للاختراع قرر «لويس فيكا» إهداء اكتشافه للعالم أجمع بدون مقابل.

وفي الجانب الآخر، أدى الفشل البنيوي المتكرر لمنارة إيديستون قبالة ساحل كورنوال بإنجلترا إلى قيام المهندس البريطاني جون سميتون بإجراء تجارب على الملاط في كل من المياه العذبة والمالحة. وفي عام 1756، أدت هذه الاختبارات إلى اكتشاف أن الأسمنت المصنوع من الحجر الجيري المحتوي على نسبة كبيرة من الطين يتصلب تحت الماء، وقد استغل هذا الاكتشاف لإعادة بناء منارة إيديستون في عام 1759م، والتي بقيت صامدة لمدة 126عامًا.

وفي عام 1824م، حصل جوزيف أسبدين، وهو عامل بناء في ليدز بإنجلترا، على براءة اختراع على أسمنت هيدروليكي أطلق عليه اسم أسمنت «بورتلاند» كون لونه يشبه لون الحجر المستخرج من جزيرة بورتلاند قبالة الساحل البريطاني.

وتضمنت طريقة أسبدين تقسيم الحجر الجيري والطين بعناية، وسحقهما، وحرق الخليط إلى كلنكر، والذي تم طحنه بعد ذلك إلى أسمنت نهائي.

وخلال العصور الماضية، نضجت صناعة الأسمنت ليتخذ بعدها ثلاثة أشكال مختلفة، يأتي في المقدمة أسمنت بورتلاند ويُعدّ أكثر أنواع الأسمنت شيوعًا اليوم.

 


وجدانيات الأسمنت


على الرغم من قسوة الأسمنت، إلا أنه كان عنوان لكتب وروايات وأعمال فنية كالمسلسلات والأفلام، ومن أشهرها رواية «حديقة الأسمنت» التي صدرت العام 1978م للمؤلف الإنجليزي إيان ماك إيوان، والتي تحولت في عام 1993م إلى فيلم من بطولة شارلوت جينسبورج.

عربياً، استخدم كُتاب وأدباء على نطاق ضيق اسم الاسمنت في عناوين كتبهم أو حتى أعمالهم الدرامية، فقد وسم القاص البحريني أحمد المؤذن أحد كتبه بعنوان «غابات الاسمنت»، كما كان مسلسل محمد نجم بعنوان «غابة من الاسمنت»، وعلى الرغم من أن كل ذلك يعد توظيفاً مجازياً، إلا أنه يرتبط بالصورة الذهنية عن المسحوق الرمادي الاسمنت، وتوغله في تفاصيل المشهد العمراني وفي حياة الإنسان.


جدران الأسمنت الناطقة


في جانب آخر، كان الأسمنت عندما يتشكل ويصبح جدراناً، يمثل الصفحة التي يدون عليها العشاق حنينهم، والموجوعون آهاتهم، حيث شكلت الكتابة على الجدران لدى أغلب الشعوب صفحة للتعبير عن مواقف ووجدانيات وآراء تعبر عن مشاعرهم المختلفة.

وعلى الرغم من فضاء الإعلام الجديد، وإمكانية أن يملك كل إنسان حساباً في منصات التواصل الاجتماعي يبوح من خلالها عما يخالج نفسه، إلا أن الجدران لم تتحرر كثيراً من أولئك الذين يكتبون وجعهم على جبينها، فالحب والحرب هما أكثر ما يشعل الكتابة على الجدران غالباً.

ورغم أن الكتابة على جدران الأسمنت يعدها كثيرون تشويهاً للمشهد العام للمدن، إلا أن الرسم على جدران الأسمنت يعد لمسة جمالية على وجوه المدائن أحياناً، فقد اشتهر فنانون ورسامون بتخصصهم بالرسم على الجدران الأسمنتية المهملة في الشوارع المنسية، فشوارع مانهاتن بويري أو بروكلين، أو حتى في جادة جونسون في نيويورك، تعج بإبداعات أشهر فناني الرسم على جدران الشوارع مثل كريس ستين أو كيث هارينج وكثيرين غيرهما، وقد اشتهر رسامون عرب، أحالوا برسوماتهم جدران الأسمنت إلى لوحات فنية رائعة، وفي السعودية اشتهرت الرسامة نورة آل سعيدان وكذلك علي النفيعي المعروف بـ «كلاخ» بالرسم على الجدران.


في الحروب والسياسة


الأسمنت والخرسانة هما من الشواهد الأولية على الدمار الذي تخلفه الحروب، وتأتي مشاهد الحرب في غزة وما قبلها، لتبين الشكل الحزين للأسمنت حين تنهار قواه، ويصبح ركاماً، ومن المفارقات أيضاً أن الأسمنت الذي شهد على الدمار في الحروب، هو جزء أساسي في إعادة البناء للدمار الذي خلفته الحروب، ويقدر ركام المباني المدمرة في غزة وحدها بـ 55 مليون طن من الركام.

والأسمنت حاضر كذلك في النزاعات التجارية والمواقف السياسية لبعض الدول، فخلال العقدين الأخيرين، ضخت شركات إسمنت أجنبية استثمارات كبيرة في مصر بعد إطلاق مبادرة الخصخصة هناك، وقد تسابقت شركات عالمية إلى الدخول في السوق المصري، مثل "هايدلبرغ" الألمانية، و"لافارج هولسيم" السويسرية، و"فيكات" الفرنسية، لكن تدخل الجيش المصري في السوق بتملك مصانع اسمنت أدى إلى احتكار السوق كما تراه الشركات الأجنبية، مما دفع تلك الشركات إلى رفع قضايا في هذا الشأن نتيجة تعرضها لخسائر كبيرة.

وتم رفع قضايا خلال عام 2021 ضد مصر أمام مراكز التحكيم الدولية من قبل شركات عالمية، مثل شركة الأسمنت الفرنسية "فيكات" التي تقول إنها خسرت بشكل غير عادل في السوق المصري.


البيئة تشتكي


ورغم كل منافع الأسمنت العظيمة، إلا أن صناعة الأسمنت تمثل أحد أهم التحديات التي تشكل ضرراً كبيراً على البيئة، فهي أحد أبرز مصادر انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم، وتُبذل جهود كبيرة من جهات عالمية للحد من تأثيره في تغيّر المناخ، ويساهم قطاع صناعة الأسمنت بـ 7% من انبعاثات الكربون في العالم، فيما تشكّل عمليات التحويل الكيميائي للمواد الخام في صناعة الأسمنت نحو 60% من إجمالي انبعاثات الصناعة، والتي تمثل تحدياً للعالم أجمع.

ويتوقع أن تحقق التقنيات المبتكرة دورًا مهمًا في الحد من تأثير صناعة الأسمنت السلبية في البيئة، فقد حقق باحثون من جامعة كامبردج فتحا كبيرا قد يسهم في مكافحة تغيّر المناخ، وذلك بعد اكتشافهم طريقة من شأنها تقليل البصمة الكربونية في إنتاج الأسمنت.

وفي السعودية بدأت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية "كاوست" في إجراء دراسة بحثية هي الأولى من نوعها حول تقنيات تصنيع الأسمنت بهدف خفض الانبعاثات وعزلها وتطوير إستراتيجيات فعالة لتصنيع الأسمنت في السعودية في المستقبل، وتقود "كاوست" مبادرة مستقبل الأسمنت "FCI" ملتوجيه صناعة الأسمنت، وذلك في إطار جهودها لدعم المملكة في التحول إلى اقتصاد خالٍ من الكربون بحلول عام 2060م.

وفي محاولة لتقليل الانبعاثات الضارة بيئياً، عمدت بعض الشركات لإنتاج الأسمنت الأخضر هو نوع من الأسمنت المستدام بيئيًا، يتميز بانبعاثات كربونية أقل مقارنة بالأسمنت التقليدي، لكنه يستخدم بشكل محدود في التشطيبات النهائية.

في السعودية، اتجهت شركة أسمنت المدينة إلى إنتاج الأسمنت الأخضر للمساهمة في الحد من تأثير الأسمنت على البيئة، وقالت ماجد العسيلان – الرئيس التنفيذي للشركة في تصريح لـ"الاقتصادية".

أن تجربة شركة أسمنت المدينة تتمثل في إنتاج الأسمنت الأخضر عبر تبني نهج متكامل لتقليل البصمة الكربونية.

وبين أن الشركة استثمرت في إنشاء وحدة استرجاع الحرارة المهدرة (Waste Heat Recovery Unit) لتوليد الطاقة الكهربائية النظيفة، مما يقلل الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية. وقال العسيلان أن الشركة قد استخدمت سلة متنوعة من الوقود البديل بدلاً من الوقود الأحفوري، مثل الوقود المستخلص من النفايات (RDF) والوقود المشتق من الإطارات (TDF) والمخلفات الصناعية الأخرى، للحد من الطمر والتلوث البيئي والحفاظ على الموارد الطبيعية من الوقود الاحفوري. وإلى جانب ذلك، تعتمد الشركة على البدائل الأسمنتية المضافة (SCMs) مثل خبث الحديد والمواد البوزولانية الطبيعية لتقليل استهلاك الكلنكر وخفض الانبعاثات.


الإنتاج العالمي من الأسمنت


في العام 2024 بلغت قيمة سوق الأسمنت العالمية 423.24 مليار دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى 554.71 مليار دولار أمريكي في عام 2030. ومن المتوقع أن يصل إنتاج الأسمنت العالمي إلى 5.55 مليار طن في عام 2030، ومن المتوقع أن يرتفع استهلاك الأسمنت إلى 5.54 مليار طن.

وكان حجم إنتاج العالم من الأسمنت قد وصل إلى 4.2 مليار طن عام 2023م، ومن المتوقع أن ينمو حجم سوق الأسمنت إلى 612.12 مليار بحلول عام 2033 ، بمعدل نمو سنوي مركب 4.27%.

وحافظت الصين على مكانتها باعتبارها أكبر الدول المنتجة للأسمنت في العالم، بـ 2.1 مليار طن من الأسمنت في 2023، وجاءت الهند ثانياً بحجم إنتاج بلغ 410 ملايين طن.

وعربياً تأتي السعودية من بين أكبر 10 دول مصنعة للإسمنت عالمياً، حيث أنتجت السعودية وحدها 53 مليون طن في العام 2023 وقدرت بعض أبحاث السوق أن هذه الكمية بلغت 55 مليون طن في 2024.

وبدأت السعودية صناعة الاسمنت عام 1955م بإنشاء أول مصنع بمدينة جدة «اسمنت العربية»، وتوالى بعدها إنشاء المصانع في ظل الطفرة النفطية، وقد توسعت صناعة الأسمنت في المملكة بإنشاء مزيد من شركات الأسمنت ، حتى أصبح عدد الشركات العاملة في هذا القطاع أكثر من 20 شركة.

ويعد الأسمنت من أكثر مواد البناء استقراراً في الأسعار في السعودية، حيث لم يرتفع سعر كيس الأسمنت خلال عشرين عاماً سوى 1.59 ريال فقط في ظل دعم حكومي لأسعار الطاقة لمصانع الأسمنت.

 

الأكثر قراءة