كيف ستكون آخر وقفات باول في جاكسون هول؟

قد يكون موقف رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي قوياً لكن هذا لا يعني بالضرورة الانتصار

  • الأسواق احتسبت خفضاً في أسعار الفائدة مع ميل لتوقع خفض كبير .. فهل يصدمها باول؟
  • بيانات سوق العمل مختلطة لكن يبدو بوضوح عودة انعدام مساواة يسير بعكس رغبة ترمب
  • الدولار القوي على المحك ومؤشرات على ضعف جاذبية الاستثمار في الشركات الأمريكية

بينما يجتمع محافظو البنوك المركزية حول العالم في جاكسون هول في ولاية وايومنج، ليأخذوا جرعتهم السنوية من الهواء النقي في ظل جبال تيتون، سيشعرون ببوادر التغيير القائمة في محيطهم.
ستكون هذه بالتأكيد آخر ندوة يحضرها جيروم باول كرئيس لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، أو وقفته الأخيرة في الغرب المتوحش. تهدد الدراما المحيطة بفكرة استبداله بأن تكون شاملةً، إذ إن هناك خططاً لطروحات تغييرات جذرية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي يفرضها الآخرون.
لكنها أيضاً فرصة لتغيير جذري في الاتجاه الذي قرره مجلس الاحتياطي الفيدرالي لنفسه قبل 5 سنوات، الذي يبدو الآن أنه جاء في توقيت بالغ السوء. لقد كشف باول في جاكسون هول في عام 2020 عن استهداف التضخم المتوسط المرن، الذي يهدف إلى الحفاظ على التضخم عند متوسط 2%، بدل التعامل مع 2% كحد أقصى.
قللت الأرقام على الأرض من شأن هذا الطرح حينئذ. وكان الاحتياطي الفيدرالي آنذاك يخشى من أن يقع في النموذج الياباني من حيث التضخم، وبدا حينها أن مقاربة السماح للاقتصاد بأن يسرع قليلاً من وقت لآخر كانت أفضل.
بدا الأمر وكأنه تفكير متفائل- فقد كان الاقتصاد بطيئاً على مرّ عقود، وبدا مثل هذا التحرك أشبه بالضغط على دواسة الوقود لسيارة ضعيفة لم يكن محركها قوياً بما يكفي لكسر حد السرعة.
لكن كما اتضح في غضون أشهر، كان الوقوع في النموذج الياباني أبعد ما كان يجب أن يخشاه الاحتياطي الفيدرالي. فقد بلغ متوسط التضخم أكثر بكثير من 2% على مدى السنوات الخمس الماضية، وتلقى باول وزملاؤه اللوم على خطأ كبير، وتجب استعادة مصداقية البنك المركزي.
يبدو أنه لا توجد فرصة للتخلي عن هدف 2%، رغم أن الضغط السياسي لخفض أسعار الفائدة يوحي بأن إدارة ترمب لا تمانع ارتفاع الأسعار بمعدل أسرع إلى حد ما. يمكن أن ينتهي لحن الوداع من باول في جاكسون هول بنشاز- أو ربما بموقف تحدٍّ أخير في الولاية التي لقي فيها الكولونيل جورج أرمسترونج كاستر حتفه في عام 1876، وكانت حينئذ إقليماً.
إذا صمد ضد الضغط عليه لخفض أسعار الفائدة، فقد يخلق ذلك قدراً كبيراً من الإثارة مثل فيلم غربي نموذجي. تحركت أسواق الأسعار، كما تراقبها دالة احتمالات أسعار الفائدة العالمية في بلومبرغ، لتحتسب تخفيفاً أكبر خلال الأشهر الستة الماضية، وهي الفترة التي بدأ فيها التضخم ارتفاعه مجدداً.
من شأن هذا أن يضع الأسواق في وجه مفاجأة إن كان هناك قرار تشديد. تبدو التكهنات على المدى القريب مبالغاً فيها بشكل خاص، إذ تشير سوق العقود المستقبلية إلى أن احتمالات خفض الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس الشهر المقبل تبلغ نحو 85%. ولكن هناك كثيرا من الرهانات على خفض من العيار الثقيل بمقدار 50 نقطة أساس. يشير زميلي إدوارد بولينجبروك إلى ارتفاع كبير جداً في الأسبوعين الماضيين في حيازة خيارات أسعار الفائدة للتمويل المضمون لليلة واحدة، التي من شأنها أن تحقق ربحاً كبيراً إذا قرر الاحتياطي الفيدرالي خفضاً كبيراً يفوق 25 نقطة أساس.
حاجج وزير الخزانة سكوت بيسنت الأسبوع الماضي بأن الاحتياطي الفيدرالي يجب أن يفكر بخفض من العيار الثقيل، وأن أسعار الفائدة يجب أن تكون أقل بمقدار 150 نقطة أساس على الأقل. تتصرف السوق حالياً كما لو أنه يُرجح أنها ستحصل على ما يريد.
السبب الرئيسي في ذلك يأتي من سياسة الاحتياطي الفيدرالي. صوّت اثنان من المحافظين، وكلاهما قيل لهما إنهما مرشحان لمنصب الرئيس، لصالح الخفض الشهر الماضي. كما أن عدداً من أعضاء لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية قيد الدراسة الآن- ويعلمون أنهم سيحتاجون إلى أن يفعلوا كهؤلاء إذا كانوا يريدون الحصول على هذا المنصب.
راهناً، لا يزال السباق لاستبدال باول مفتوحاً على مصراعيه، ربما لأن الإدارة قد حسبت أن هذا يزيد من فرصها في الحصول على تخفيضات حتى أثناء بقائه في منصبه. وفقاً لشركة "بولي ماركت"، إن المرشح المفضل هو كريس والر، وهو أحد المحافظين الحاليين، لكن لا تزال هناك فرصة من 3 لعدم تقديم أي ترشيح هذا العام.
تعتمد الرهانات المتحمسة لخفض أسعار الفائدة في المقام الأول على النظرية القائلة إن الطريقة التي يدير بها الرئيس دونالد ترمب ومسؤولوه مسابقة الاحتياطي الفيدرالي ستقنع اللجنة بالتصويت بهذه الطريقة.
التضخم، الذي يرتفع ويتجاوز الهدف، لا يقدم أي سبب على الإطلاق لخفض أسعار الفائدة. تعتمد حجة التخفيف حصرياً على التوظيف، وهو الجانب الآخر من المهام المنوطة بالاحتياطي الفيدرالي. ويبدو ملائماً أن ندوة جاكسون هول لهذا العام تحمل عنوان أسواق العمل في مرحلة انتقالية: التركيبة السكانية والإنتاجية والسياسة الاقتصادية الكلية. لذا فهي ستتناول موضوعاً حاسماً وراهناً.
الأدلة من سوق العمل متناقضة، وبالطبع مشوهة ببيانات غير موثوقة. لا يزال نمو الرواتب إيجابياً لكنه يتباطأ، وترسم بيانات أخرى صورة مربكة. وفقاً لمسح سوق العمل ربع السنوي الذي يعدّه الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، فإن ما يُسمى "مستوى أجر البقاء" -الذي يتوقعه العمال قبل أن يستعدوا للانتقال- قد قفز للتو إلى أعلى مستوى له على الإطلاق. يشير ذلك إلى أنه لا يزال هناك كثير من الضغوط التضخمية المحتملة.
"يتتبع الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أيضاً التنقل بين الوظائف من خلال السؤال عما حدث لمن كانوا موظفين قبل 3 أشهر، وعدد من انتقلوا لأي سبب كان. وقد ارتفع ذلك إلى مستوى قياسي لفترة ما بعد الجائحة.
عندما تدور عجلة سوق العمل بهذا القدر، تصعب رؤية الإشارات الاقتصادية الكلية. وفي الوقت نفسه، يُظهر متتبع الأجور التابع للاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا، استناداً إلى بيانات التعداد السكاني، تراجعاً في زيادات الأجور ولكنه لا يزال، فيما يخص العمال ذوي المهارات العالية، عند مستويات لم نشهدها لأكثر من عقد في أعقاب الأزمة المالية العالمية.
يبدو أننا نشهد عودة عدم المساواة، الذي أصبح حاداً خلال رئاسة أوباما مع تراجع أجور العمال ذوي المهارات المنخفضة. هذا ليس أمراً حسناً بالنسبة إلى البيت الأبيض الساعي لعكس اتجاه عدم المساواة. كما يعني أيضاً أن انخفاض الهجرة لم يدفع بعد أجور العمال ذوي المهارات المنخفضة إلى الارتفاع.
قد تكون هذه مسألة وقت. ويصعب الحصول على بيانات موثوقة عن العمالة المهاجرة غير الشرعية، لكن بيانات البنك المركزي المكسيكي تُظهر أن التحويلات المالية إلى البلاد آخذة في الانخفاض الآن، بعد ارتفاعها لمعظم العقد الذي سبق هذه الأرقام، وهو يشمل زمن ولاية ترمب الأولى. يشير ذلك إلى أن المعروض من العمالة المهاجرة في الولايات المتحدة أصبح أقل، ما قد يعني ارتفاع تضخم الأجور للعمال ذوي المهارات المنخفضة.
وبالنسبة إلى المستهلك، فإن كبار تجار التجزئة يصدرون الآن نتائج ربع سنوية. ولا نجد في بيانات شركة "هوم ديبو" ما يشي بتراجع في إقبال المستهلكين. وصلت الإيرادات إلى مستوى قياسي- وهو أمر لا تتوقعه في وقت يتطلب خفضاً كبيراً.
تميل مبيعات "هوم ديبو" إلى الارتفاع عندما ينتقل مزيد من الناس إلى منازلهم. وربما تكون سوق الإسكان هي السبب الأكثر شيوعاً لقيام الاحتياطي الفيدرالي بخفض حاد، حين يجد الناس صعوبةً في تحمل تكلفة المنازل، وحين تتباطأ مشاريع البناء الجديدة.
قد تعيد القروض العقارية الأرخص هذا إلى الحياة، إذ تُظهر أحدث البيانات ارتفاعاً في مباشرة مشاريع المساكن، لكن تصاريح البناء الجديدة، وهي مؤشر رئيسي لنشاط البناء، انخفضت إلى أدنى مستوى لها بعد الوباء.
ارتفاع في مباشرة مشاريع المساكن، لكن تصاريح البناء الجديدة انخفضت إلى أدنى مستوى بعد الوباء، إنه وضع صعب. هناك مبرر لخفض سعر الفائدة الشهر المقبل. ويصعب بناءً على الأدلة الحالية أن نرى أن توقعات السوق ستكون في أي مكان قريب ما هي عليه بلا ضغوط سياسية. قد تُحدث الوقفة الأخيرة لباول، التي يلمح جوليان بريجدن من "ماكرو إنتليجنس بارتنرز" Macro Intelligence Partners إلى أنها ستكون على مقربة من موقع "معركة ليتل بيج هورن"، صدمة كبيرة.

توقع الاستثنائية

يجب أن يؤثر ملتقى جاكسون هول أيضاً في الاستثنائية الأمريكية. تشير العبارة في سياق السوق إلى الأداء المتفوق المستمر للأصول الأمريكية، بمساعدة الدولار القوي والتأثير الجاذب لشركات التقنية الكبرى التي تهيمن حالياً على العالم.
أشار رد الفعل على رسوم يوم التحرير إلى أن الاستثنائية ربما تكون قد انتهت، وأن الثقة بالمؤسسات الأمريكية معرضة للخطر بشكل قاتل. نحن الآن في منطقة رمادية: الرسوم الجمركية سارية المفعول بنفس المستويات الموضحة آنذاك (باستثناء الصين)، والعالم يتعايش معها.
كما يمر الدولار بمنعطف مثير للاهتمام. يهتم تجار العملات الأجنبية بالاتجاهات: انتهى انخفاض مؤشر "دي إكس واي" للدولار في وقت سابق من هذا العام بالضبط عندما بلغ خط اتجاه تصاعدي بدأ من أدنى مستوى له في 2011 قبل أن تدفع أزمة منطقة اليورو الدولار إلى الارتفاع. ويشير بريدجن إلى أن نقطة المقاومة هذه توفر فرصة طبيعية للمتداولين للتوقف وتحديد ما إذا كانوا مستعدين لدفع الدولار إلى الأسفل.
تدور فرضية هبوط الدولار حول تدفقات رأس المال. فمع إعادة الدول لأموالها، ستتطلب المخصصات الضخمة التي يحتفظ بها مديرو الصناديق الأجنبية في الأسهم الأمريكية تدفقات تخارج من الدولار. تجذب أسهم شركات التقنية الكبرى السبع الأموال الأجنبية، فإن استبعدناها سنجد الشركات الأمريكية الكبرى المتبقية تتخلف الآن بشكل كبير عن بقية العالم. وهناك مجال لهذا الاتجاه للاستمرار إلى أبعد من ذلك بكثير.
مع ذلك، فإن التدفقات الفعلية داخل وخارج الأصول الأمريكية تحكي قصة مختلفة. فقد أصبحت تدفقات الأسهم سلبيةً العام الماضي، لكنها عادت إلى الإيجابية بقوة. وتتضاءل التدفقات إلى سندات الخزانة، لكنها لا تزال إيجابية- لم يمضِ وقت طويل منذ أن دفعت البنوك المركزية في الأسواق الناشئة بتدفقات خارجية مباشرة خلال الجائحة. وبشكل عام، أصبحت التدفقات إلى الأصول الدولارية أقوى من أي وقت مضى.
يصعب التوفيق بين هذا ورواية أزمة ثقة كبيرة في الولايات المتحدة. ومن المحتمل أن تأتي آخر وقفة لمتشككي الدولار في جاكسون هول. ويجادل روبن بروكس من مؤسسة "بروكينجز" قائلاً: السبب الأرجح لعدم ترجمة هذه التدفقات الداخلة إلى انتعاش للدولار حتى الآن هو أنه لا تزال هناك تخفيضات في أسعار الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي أكثر بكثير من البنوك المركزية الأخرى، لذلك ربما يكون كثير من التدفقات الخارجية قصيرة الأجل غير مشمولة في هذه البيانات. إذا كان الأمر كذلك، أتوقع أن تكون نهاية هذا التوتر لصالح الدولار.
ستكون المفاجأة المتشددة من باول بمنزلة صدمة أيضاً لمن يراهنون ضد الدولار. لذا، سيكون أي "تخفيض متشدد" في أسعار الفائدة الشهر المقبل أقل وقعاً، مع إشارة من اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة إلى عدم رغبتها في التخفيض مجدداً على عجل. إذا أراد باول تحسين وضع الأسواق، فإن فرصه تبدو أفضل بكثير من فرص كاستر.

محرر أول في قسم الأسواق. قبل انضمامه إلى "بلومبرغ"، أمضى 29 عامًا في صحيفة فاينانشيال تايمز، كان رئيسًا لقسم ليكس وكبيرًا لمحللي الأسواق.

خاص بـ "بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي