"الأموال الرمادية" في الشركات .. من يحمي صغار المستثمرين من تضارب المصالح؟
لم يكن ذلك السجال العلني بين مستثمر بارز ومجلس إدارة إحدى الشركات المدرجة، التي يملك حصة فيها، حدثا عابرا، بل انعكاسا لمخالفات يرتكبها بعض أصحاب المصالح في مثل هذه الشركات، قد تلحق الضرر بصغار المستثمرين.
قبل نحو أسبوعين من ذلك السجال، الذي وقع على خلفية اتهامات بتجاوزات في ترسية عقود وتضارب مصالح وغياب للشفافية، وصف رجل أعمال بارز بنود الجمعية العمومية لإحدى الشركات الصحية المدرجة بـأنها "فضيحة" تستدعي التحقيق.
انتهى الأمر إلى عقد الشركة المعنية اجتماعا لجمعيتها العمومية، وتأكيدها على توافق العقود مع نظام الشركات ولوائح هيئة السوق المالية، إذ لم تكن لدى المراجع الخارجي أي ملاحظات تشير إلى خلل في إجراءاتها. كذلك، أكدت الشركة أن التعاقدات لم تنطو على أي شروط أو مزايا تفضيلية.
مثل هذه الأحداث، التي تتكرر بين حين وآخر، تثير تساؤلا حول طبيعة الممارسات التي يمكن أن تمثل مخالفة تدخل في نطاق ما يعرف بـ "الأموال الرمادية"، أي التي تحقق بطريق غير مشروع، وتضر بمصالح صغار المستثمرين، وتستوجب عقابا؛ كما تستوجب إلقاء نظرة على الإجراءات النظامية التي تحمي حقوق المساهمين.
الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين، التي تتولى تنظيم الرقابة الميدانية على جودة الأداء المهني وتنفيذها، أكدت بدورها لـ"الاقتصادية" أنها تقيم قدرة المراجعين على اكتشاف التجاوزات المالية والإدارية من خلال آليات رقابية، تتضمن فحصا ميدانيا سنويا مبنيا على تقييم المخاطر وفق أفضل الممارسات الدولية.
وتفحص الهيئة البيانات السنوية للمكاتب وتنفيذ فحوصات خاصة، سواء كانت مجدولة أو مفاجئة بحسب ما تقتضيه الضرورة.
تضارب المصالح أبرز المخالفات
بحسب المحامي مطلق الفغم، فإن أبرز المخالفات في الشركات المدرجة تتنوع ما بين "التلاعب في القوائم المالية، وتضارب المصالح، واستغلال المنصب، والاحتيال المالي".
بينما أشار الفغم إلى أن هذه القضايا تتكرر بأشكال وأساليب أكثر تعقيدا منذ ذي قبل، مع تطور أدوات التمويل والأسواق، أكد القانوني المتخصص في قضايا الشركات أن فعالية أنظمة الرقابة الداخلية تؤدي دورا جوهريا في الكشف المبكر عن أي تجاوزات إدارية أو مالية، وتسهم في حماية الأصول وحقوق المساهمين.
تصبح المخالفة "شبهة فساد" فقط عندما تنطوي على نية واضحة وتتوافر فيها أركان القصد الجنائي، بحسب الفغم.
وتستلزم الإجراءات النظامية انتظار صدور قرار من لجنة الاستئناف أو حكم قضائي نهائي في حال الاشتباه في ارتكاب أعضاء مجالس الإدارات أو كبار التنفيذيين مخالفات.
لكن يجوز لهيئة السوق المالية اتخاذ إجراءات تحفظية ضد المتورطين، من بينها وقفهم عن العمل مؤقتا أو منعهم من السفر، حفاظا على مصالح المساهمين واستقرار السوق.
في أغسطس الماضي، أدانت لجنة الاستئناف في هيئة السوق المالية 9 من أعضاء مجلس إدارة شركة "ريدان" الغذائية، بعد ثبوت قيامهم باستعمال أموالها لمحاباة مالكي شركة تربطهم بأعضاء مجلس الإدارة علاقة عائلية، بحسب ما أفصحت عنه الهيئة.
كما أدانت الهيئة العام الماضي الرئيس التنفيذي السابق للشركة الوطنية للتسويق الزراعي "ثمار" لاستخدامه أموال الشركة ضد مصالحها لتحقيق أغراض شخصية ومحاباة إحدى الشركات التي له مصلحة فيها.
استغلال المنصب من أشكال المخالفات
يحذر الفغم من خطورة استغلال بعض المساهمين، أو أعضاء مجالس الإدارة، للمعلومات الداخلية، حيث يشير إلى أن بعض التكتلات داخل السوق تتحرك بناء على معلومات غير معلنة، ما يؤدي إلى ارتفاعات أو هبوط مفاجئ في أسعار الأسهم قبل صدور الإفصاحات الرسمية.
في نوفمبر 2024، أعلنت هيئة السوق المالية صدور قرار سجن الرئيس التنفيذي لشركة الخضري 6 أشهر وتغريمه نحو 4 ملايين ريال، إضافة إلى إدانة المدير المالي لقيامهم بتضخيم إيرادات 4 مشاريع إنشائية في القوائم المالية للشركة، بحسب ما أعلنته.
الدكتور ماجد قاروب، المستشار في شؤون الحوكمة والأسواق، أوضح بدوره أن من أبرز أنواع قضايا الفساد المالي والإداري في الشركات المساهمة "استغلال النفوذ"، والتي تترجم كذلك في مفاهيم السوق المالية تحت بند "تعارض المصالح".
تسمح المادة 27 من نظام الشركات، والتي تخص تعارض المصالح والمنافسة واستغلال الأصول، بأن يكون لمدير الشركة أو عضو في مجلس الإدارة مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في الأعمال والعقود التي تتم لحساب الشركة، لكن بشرط الحصول على ترخيص من الشركاء أو الجمعية العامة أو المساهمين أو من يفوضونه.
تصل عقوبة المخالفات المالية والإدارية في الشركات المساهمة في بعض الحالات إلى السجن 5 سنوات وغرامات قد تبلغ 5 ملايين ريال، إضافة إلى عقوبات أخرى، تشمل إلزام المتورطين بالتعويض عن الأرباح التي تحققت بشكل غير مشروع.
تشمل العقوبات أيضا تعويض الخسائر التي تم تجنبها بسبب التداول بمعلومات داخلية، وهو ما يمثل أحد أخطر أشكال الفساد في السوق المالية.
إجراءات مختلفة لمخالفات مختلفة
هناك نوعان من المخالفات، أحدهما يقع ضمن منظومة سوق المال، وتشمل التداول والمضاربة، والآخر، الذي يحدث داخل الشركات نفسها، ويخضع لاختصاص وزارة التجارة، بحسب قاروب.
على الرغم من تشابه المسار القانوني في التحقيق والعقوبات، فإن طبيعة المخالفات تستوجب إجراءات مختلفة بحسب التعقيد الفني والتقني والإداري لكل قضية.
عادة ما تكون مخالفات الشركات في تداول الأسهم بهدف التأثير في السعر، وترتبط بعدد كبير من أسهم الشركات، حيث يعمد المخالفون إلى تنفيذ تداولات وهمية أو متفق عليها لتحقيق مكاسب غير قانونية.
قبل شهرين، أدانت لجنة الاستئناف في هيئة السوق المالية متداولين تلاعبوا بأسهم أكثر من 25 شركة مدرجة عبر إدخال أوامر شراء بهدف التأثير في سعر أسهم الشركات، وألزمتهم بدفع نحو 10 ملايين ريال إضافة إلى أحكام بالسجن.
وأصدرت هيئة السوق المالية لائحة إلزامية، تهدف إلى الحد من قدرة الإدارات التنفيذية وكبار المساهمين على التلاعب بحقوق المساهمين. وأكد قاروب أن هذه اللائحة تحمي حقوق حملة الأسهم.
وتقيّم الهيئة قدرة المراجعين على اكتشاف التجاوزات المالية والإدارية، من خلال آليات رقابية تتضمن فحصا ميدانيا سنويا مبنيا على تقييم المخاطر، إضافة إلى فحص البيانات السنوية للمكاتب وتنفيذ فحوصات خاصة.
الدكتور عبد الرحمن الزومان، خبير المخاطر الإستراتيجية، أكد بدوره أن مثل هذه الإجراءات التي تعزز الثقة في السوق والاقتصاد، "تمثل عنصرا مؤثرا في اتخاذ القرارات الاستثمارية سواء من قبل المستثمرين الأفراد أو الكيانات المؤسسية",
وقال لـ "الاقتصادية" إن ارتفاع الثقة في السوق "يؤدي تلقائيا إلى خفض درجة المخاطر، ما يشجع المستثمرين على الدخول حتى لو كانت العوائد المتوقعة أقل من الأسواق المماثلة ذات المخاطر المرتفعة".