إبراهيم كشميري .. السائق الذي عبر من مشقة الحج إلى الذكاء التقني
لم تكن عزبة الشاي ولا دافور الطبخ ما يميز رحلة الحج في ذاكرة إبراهيم كشميري سائق حافلات الحج منذ أكثر من ربع قرن، بل كانت تفاصيل الطريق، وعشوائية المواسم، وأهازيج الحجاج من مختلف الجنسيات، ما شكلت له ما يشبه "أكاديمية الحج على عجلات".
يقول إبراهيم: "منذ 25 عاما وأنا أقود الباصات في موسم الحج، تغيّر كل شيء من حولي .. إلا أنا وعزبتي، ما زالت رفيقتي في مواسم التعب والنفحات".
"العزبة" هي الوطن المتنقل للسائق تحتوي على "دافور طبخ، إبريق شاي، قدر رز، وبهارات تكفي لأيام الحج. هي ليست أدوات فقط، بل طقس يومي يجمع السائقين حول وجبة واستراحة قبل أن تعود العجلات للدوران.
من الفوضى إلى النظام
يبدأ إبراهيم روايته من الزمن الذي كان فيه كل من يمتلك مركبة يمكنه دخول سوق نقل الحجاج، ولم تكن هناك اشتراطات فنية، ولا رخص تشغيل منظمة، فقط شغف ومكاسب الموسم، ومهارة الطريق، وبعض الحظ في الحصول على حملات تعاقدية.
كانت تبدأ رحلة سائقي الباص من شهر شوال، حين يبدأ الاستعداد بتجهيز الحافلة وفحصها، وفي أول ذي القعدة، تنطلق القوافل نحو الخليج والدول الأخرى "عمان، قطر، الإمارات، الكويت، واليمن، والأردن".
كانت تبلغ بعض الرحلات 7 آلاف كيلومتر لتحميل الحجاج إلى مكة، والحج كان موسم ينتظرك طوال العام، كانت تراوح المكاسب ما بين 45 و50 ألف ريال، فكان يُقال إن الحج "رزق السائقين" ويشكل دخلا سنويا لكثير منهم.
يتذكر إبراهيم تلك الأيام التي لم تكن فيها خرائط رقمية، ولا طرق واضحة، ولا شركات مرخصة، كانت هناك شركتان فقط تعملان لنقل الحجاج وبقية الباصات فردية يمتلكها أشخاص.
كل سائق يكون معه مرافق يكون فني سيارات "ميكانيكي" كشرط رئيسي، حيث تتعرض السيارات للأعطال خاصة مع طول الطرق ووعورتها وندرة الورش على الطريق، ما يستلزم وجود الفني.
أضاف، كان السائق هو قائد الرحلة والمرجع الرئيسي للحجاج خلال الرحلة، فهو من يحدد أماكن الاستراحة ووقتها ومدتها، كانت تتكون علاقة وطيدة مع الحجاج خلال الرحلة، وتربطهم "لبيك اللهم لبيك" التي كانت تهدئ النفوس وكفيلة بحل أي نزاع أو مشكلة في الحافلة، وكأنّها تذكير بالهدف من الرحلة.
النقلة التنظيمية الكبرى : شركات وتقنيات
لكن التغيير الحقيقي لم يبدأ فعليا إلا خلال السنوات الخمس الأخيرة، حيث اختصر النقل على شركات النقل المرخصة فقط، وبدأت وزارة النقل والجهات المعنية بإعادة هيكلة قطاع نقل الحجاج بالكامل.
أصبحت الحافلات المطلوبة حديثة الصنع، بعمر تشغيلي لا يقل عن 10 أعوام، ومزودة بخدمات متكاملة تشمل "تكييف مستمر، مقاعد قابلة للانحناء، أنظمة إضاءة فردي، دورات مياه".
"لم نعد نطبخ على الطريق، ولا نبحث عن حمام، كل شيء أصبح متوفر ومنظم، حتى التكييف لا يتوقف طوال الطريق"، بحسب ما ذكره إبراهيم وهو يتفقد حافلته الجديدة.
القطار اللاعب الذي غيّر المعادلة
مع إدخال قطار المشاعر، انخفض الاعتماد على الحافلات داخل مناطق مثل منى ومزدلفة وعرفة، وأسهم في تقليص زمن التنقل بين المشاعر من ساعتين إلى دقائق، وأعاد توزيع الضغط اللوجستي على مختلف وسائل النقل.
أضاف إبراهيم، أن "القطار أنقذنا من ساعات الزحام، فبعد أن كان الحجاج يشتكون من طول الرحلة بين المشاعر، فالرحلة اليوم لا تأخذ أكثر من 10 دقائق"، مضيفا "حتى الطرق تم إعادة تصميمها، وكل خط له مسار، وكل شركة لها جدول دقيق، لم يعد هناك مجال للارتجال".
الذاكرة لا تنسى الشاي
رغم هذا التحول النوعي، لم يتخلّ إبراهيم عن عزبته القديمة، التي أصبحت اليوم أشبه بـ"أرشيف شعبي للحج"، ولا تزال ترافقه لا ليستخدمها، بل لتذكره من أين بدأ.
قصة إبراهيم الكشميري ليست فقط حكاية سائق، بل رواية متكاملة عن كيف استطاعت السعودية تحويل تجربة الحج من مشقة وفوضى إلى تجربة نقل ذكية، مريحة، وآمنة، مع بقاء الحنين يغلي في إبريقٍ قديم على دافور يرافقه منذ ربع قرن.