الذكاء الاصطناعي .. مصدر إلهام مع شعور بالرهبة

الذكاء الاصطناعي .. مصدر إلهام مع شعور بالرهبة

كونها ابنة وأما ومهاجرة صينية في الولايات المتحدة وباحثة رائدة في الذكاء الاصطناعي، رأت فاي فاي لي عدة عوالم مختلفة. كما ألهمت تجربتها الحياتية خبرتها الأكاديمية: تدريب أجهزة الحاسوب على التعرف على الصور وتفسيرها.
وكما كتبت لي، أنه من المدهش كيف يستطيع الدماغ البشري - "وهو كتلة عضوية رطبة يبلغ قطرها نحو خمس بوصات" - أن يتفوق في أدائه على أجهزة الحاسوب العملاقة بحجم مستودع عندما يتعلق الأمر بفهم "جوهر" كل ما نراه. قم بإظهار صورة عشاء أمام أي أمريكي وسيتمكن معظمهم على الفور من تخمين العلاقات بين أفراد الأسرة ورؤية أنهم يتناولون الديك الرومي. كيف يعمل هذا السحر المفاهيمي؟ في بعض النواحي، تحدد هذه القدرة الغريزية على فهم السياق ما معنى أن تكون إنسانا. حيث كتبت: "إن فهم الطريقة التي نرى بها، يعني بالتالي فهم أنفسنا".
في كتابها العوالم التي أراها، تستكشف لي ثلاثة موضوعات بلمسة بارعة وبصيرة مؤثرة. إنها تقدم تاريخا واضحا وسهل الفهم للتعلم الآلي، واصفة كيف حدث هذا التحول المفاهيمي. كما توجه لي نداء صادقا لإبقاء الإنسان في صميم الذكاء الاصطناعي، لضمان تحقيقنا أقصى استفادة من قدراتنا التكنولوجية الجديدة.
لكنها فوق كل شيء تروي قصة آسرة حول كيف يمكن لفتاة صينية فقيرة مهاجرة أن تصل إلى الولايات المتحدة وينتهي بها الأمر في طليعة ثورة علمية. الكتاب عبارة عن صورة حنونة لماضي لي العائلي، إضافة إلى استكشاف مستقبلنا التكنولوجي في تداخل متعمق بين ما هو شخصي ومهني.
كتبت لي عن نشأتها في الثمانينيات في مدينة تشنغدو، عاصمة مقاطعة سيتشوان: "لقد ولدت طفلة وحيدة لعائلة تعيش حالة من الاضطرابات الهادئة". وكعديد من المدن القديمة في الصين، تم طمس شوارع تشنغدو الضيقة والساحات المفتوحة والمناظر الطبيعية الخضراء بالعمارة ذات الطراز السوفياتي الخالية من الروح. لكن تلك الخلفية الحضرية القاتمة تتناقض مع الدفء والخيال اللذين أظهرهما والداها، المرتبطان ببعضهما بطرق لا يمكن لأي شخص آخر أن يفهمها. وتكتب لي: "لقد فقد كلاهما الثقة بمؤسسات العالم، وهذا ما جعلهما شريكين، بل وحتى متواطئين، في ممارسة يومية للتحدي".
كان والدها، الذي كانت وظيفته في قسم الحوسبة في شركة كيميائية واجهة أكثر من كونها مهنة، يعاني حساسية مرضية تجاه الجدية، وفضول لا حدود له في الطبيعة وبراعة بلهاء. كان يعود إلى الحياة عندما يبحث عن الفراشات، ويشاهد جاموس الماء وهو ينثر المياه في حقول الأرز ويصطاد القوارض ويجمع الحشرات ليحتفظ بها كحيوانات أليفة. وعلى الرغم من أنه غاب عن ولادة ابنته لأنه كان ملتهيا برحلة لمراقبة الطيور، إلا أنه بشكل غريب أسماها فاي فاي. في لغة الماندرين، كلمة "فاي" تعني الطيران. وعند تحويل الاسم إلى الحروف الصينية، فإنه يشبه شكل الطائر. وكتبت لي قائلة: "إن أفضل مجاملة يمكنني أن أقدمها لوالدي هي أيضا النقد الأكثر إدانة له: إنه بالضبط ما يمكن أن يحدث إذا تمكن الطفل من تصميم والده المثالي في غياب تام لإشراف الكبار".
كانت والدة لي، التي كانت معلمة في مدرسة ثانوية وأصبحت موظفة مكتب، شخصا مستقلا بالقدر نفسه، "مثقفة محاصرة في حياة الاعتدال والتوسط المفروضة عليها". وكانت جدتها من الجيل الأول من النساء اللواتي التحقن بالجامعة. لكن مهنة والدتها الفكرية تضررت بسبب ارتباطات الأسرة بحزب الكومينتانغ المعارض المهزوم. كانت حياتها أيضا قد ابتليت باعتلال صحتها، الأمر الذي استنزف حتى طاقتها القوية.
كانت الآلية التي اتبعتها للتكيف هي الهروب إلى الأدب، وهو شغف نقلته إلى ابنتها، التي التهمت الترجمات الصينية لسيمون دي بوفوار، وتشارلز ديكنز، وإرنست همنغواي. وفي المدرسة، غضبت لي عندما سمعت معلما يقول للأولاد إنهم "أكثر ذكاء من الفتيات من الناحية البيولوجية". كانت حرارة السخط الهادئة تلك قد غذت دراستها حيث وقعت في حب جمال وعظمة الفيزياء.
انتقل والد لي إلى الولايات المتحدة لبدء حياة جديدة لعائلته. وبعد ثلاثة أعوام من الانفصال، انضمت إليه لي التي كانت بعمر 15 عاما ووالدتها في نيوجيرسي. كانت لي لا تتحدث اللغة الإنجليزية عندما التحقت بمدرسة بارسيباني الثانوية، حيث كان كل شيء "أكثر إشراقا وأسرع وأثقل وأكثر ضجيجا" من العالم الذي تركته خلفها. لكنها كانت محظوظة لأنها تعلمت على يد بوب سابيلا، أو "مدرس الرياضيات طويل اللحية"، كما كان يسميه والداها. وبفضل توجيهاته الملهمة - والدعم المالي - فازت لي بمقعد في جامعة برينستون، وهي عالم بعيد عن المغسلة التي كان والداها يديرانها.
انجذبت لي نحو مجال الرؤية الحاسوبية، وهو مجال مهمل نسبيا شهد تحولا بفعل ثورة التعلم العميق. كان سبب شهرتها الأكاديمية هو دورها في إنشاء مشروع إميج نت، الذي كان عند إطلاقه في 2009 أكبر مجموعة بيانات منسقة يدويا في تاريخ الذكاء الاصطناعي، حيث يحتوي على 15 مليون صورة موزعة عبر 22 ألف فئة، مع تعليقات من أكثر من 48 ألف مساهم من 167 بلدا. إلى جانب تطبيق خوارزميات أكثر ذكاء وقوة حاسوبية هائلة، أحدث إميج نت نموا هائلا في قدرة الرؤية الحاسوبية. وقد ساعدت هذه التطورات الباحثين على تطوير السيارات ذاتية القيادة ونماذج توليد الصور من النصوص، مثل ستيبل ديفيوجن ودال-إي وميدجورني، التي تبهر المستخدمين اليوم.
الموضوع الثالث للكتاب هو نقاش حول كيفية تحقيق أقصى الفوائد من الذكاء الاصطناعي مع تقليل أضراره المحتملة. وكما توضح لي، أن الموضوع الذي كان ذات مرة مجالا مقتصرا على العلماء الخبيرين فيه يجب أن يهم الجميع الآن. وبعد عقود قضتها في المختبر، أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم موجودا في العالم الحقيقي، على حد تعبيرها. الباحثون التكنولوجيون وقادة العالم، الذين اجتمعوا في مؤتمر سلامة الذكاء الاصطناعي في بلتشلي بارك هذا الأسبوع، يسلطون الضوء على كيفية تصدر هذا الموضوع أجندة السياسة العالمية.
وبوصفها واحدة من النساء القلائل اللاتي يقدن هذا المجال، تشعر لي بالقلق بشكل خاص إزاء الافتقار المذهل للتنوع في هذه الصناعة. وبعد أن عملت كبيرة علماء الذكاء الاصطناعي في جوجل كلاود، تقول إنها تشعر بالقلق من أن الثروة الهائلة والقوة والطموح لشركات التكنولوجيا الكبرى تتفوق على أي شيء في قطاع الجامعات. في 2015، على سبيل المثال، قامت شركة أوبر باستقطاب فريق الروبوتات بأكمله تقريبا من جامعة كارنيجي ميلون من أجل تطوير سياراتها ذاتية القيادة.
ولتصحيح هذا التوازن، ساعدت لي على إطلاق برنامج الذكاء الاصطناعي للجميع لتشجيع مزيد من التنوع بين الداخلين إلى الصناعة. كما شاركت أيضا في تأسيس معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي المرتكز على الإنسان، الذي يهدف إلى تعزيز أبحاث الذكاء الاصطناعي والتعليم والسياسات من أجل المصلحة العامة.
وينتهي كتاب العوالم التي أراها بإحساس بالرهبة من قدرتنا على إنشاء تكنولوجيا أقرب إلى الطبيعة، "شيء كبير جدا، وقوي جدا، ومتقلب جدا لدرجة أنه يمكن أن يدمر بسهولة بقدر ما يمكن أن يكون مصدر إلهام". لكنها خلصت إلى أن الأمر سيتطلب أكثر بكثير من مجرد العبارات المكررة التي تطلقها الشركات، لجعل الذكاء الاصطناعي جديرا بثقتنا.

الأكثر قراءة