رحلة صيانة بحرية
قبل عقود قليلة، كانت القوارب الخشبية تخوض بحارنا لمختلف الأغراض بحثا عن الرزق والتجارة، وهذا امتداد لما أتقنه العرب من فنون الملاحة العربية في المنطقة، في البحر الأحمر والخليج حتى المحيط الهندي وما بعده. وهو أمر لم يتغير كثيرا على مدى قرون طويلة. ويذكر لي أحد من شهدوا على تلك الفترة أن بعض الرحلات البحرية الطويلة بالسنابيك يكون هدفها الأساسي أعمال الصيانة والتجديد. فيتم التخطيط لموعد الرحلة وفق الأنواء ومواءمات الرياح ثم تعد العدة وتبحر القوارب وتخوض غمار البحر بكل أخطاره حتى يمكن لربان هذا القارب أن يزور ميناء في جنوب البحر الأحمر أو حتى الخليج العربي ليقوم بتجديد الصواري أو الدقل أو السكان أو الهراب، فالموانئ التي تجتمع فيه اليد الماهرة والمواد الضرورية مثل الأخشاب التي تأتي من الهند محدودة جدا. تأخذ مثل هذه الرحلة عدة أشهر، رحلة الذهاب وفترة الانتظار ورحلة العودة، وقد يكتب لها النجاح وقد لا يكتب، مخاطرة كبيرة جدا.
ومع قدوم المحركات البخارية ثم محركات الاحتراق الداخلي ومع تطور علم المواد وقدوم المواد المركبة مثل الألياف الزجاجية انتهى عهد القوارب الخشبية الثقيلة التي تحركها الأشرعة للأبد، وبقيت للرياضة والترفيه فقط. دخلنا في العقود الأخيرة في مرحلة مختلفة جدا من الممارسات البحرية بعد تطور أدواتها وتقنياتها. ارتفعت إمكانات تجنب أخطار البحار بعد تحسن قدرات الإبحار وتطور قوانين الملاحة وتحسن أجهزة الرصد التي تستخدم تقنيات الأقمار الاصطناعية وأنظمة السونار المختلفة. ولكن، تباينت البنية التحتية البحرية بين المناطق وفئات الممارسين.
كل دولة اليوم تنعم بشواطئ على البحر لديها بنية تحتية بحرية تخدم صناعة القوارب، ونقلها، وصيانتها، وسلسلة إمدادات طويلة متعلقة بذلك إلى جانب الأدوات الأخرى التي تسهل عملية الممارسة مثل صناعة وبيع الإكسسوارات والإلكترونيات البحرية والخرائط والملاحة وخدمات الفحص والتأمين. وتعد أيضا المرافئ والأحواض البحرية ونقاط اتصال المستفيدين من ركاب وبضائع ومتنزهين نقطة جوهرية في متانة البنية التحتية وجاهزيتها. هي صناعة مهمة وتعد العمود الفقري للاقتصاد البحري بكل فئاته وتسهم دون أدنى شك لصناعات وقطاعات أخرى مثل الصناعة والتصدير والترفيه.
ومن زاوية أخرى، لو نظرنا إلى التحديات التي يتسبب فيها ضعف البنية التحتية البحرية سنجد أن المشكلة يسهل وصفها وفق حجم المركب البحري واستخداماته. فالسفن الضخمة التجارية والعسكرية تتطلب بنى تحتية مختصة وضخمة وعادة تكون قليلة في العدد وقوية في الإمكانات من أعمال مختصة ومرافئ ضخمة. بينما تتطلب اليخوت الفارهة إمكانات مختلفة، فهي تتعامل مع مستفيدين مختلفين وتستجيب لطبقة محددة، إذ ترتبط بمناطق سياحية محددة، بينما هي كمراكب فهي منظومة معقدة وتتطلب إمكانات ميكانيكية وكهربائية متطورة. أما قوارب الصيد والقوارب الترفيهية الأصغر حجما فهي بحاجة إلى خدمات وإمكانات أقل تطورا ربما، ولكن أكثر شمولا وانتشارا. فهي مما يسهل انتشاره ورواجه في المدن والقرى البحرية وتحرك اقتصاداتها إذا توافرت مراكز الخدمات المتنوعة.
تشترك معظم فئات القوارب الصغيرة في مشكلة "موقف القارب" التي تمكنت بعض الدول من معالجتها بخيارات متعددة (مثل الموقف الخاص، الموقف الجاف، وخيارات أخرى متعددة للوقوف في الماء).
يقول أحمد بن ماجد معلم البحار وأشهر البحارة العرب متحدثا عن علم البحار والملاحة: "إن أتقنت هذا العلم لمعرفة القبلة كان خيرا لك.. ولو كنت تاجرا فأنت مطمئن القلب.. ولا تكن ذا غفلة، فإن الخطأ فيه فعل داع لتلف الأرواح والأموال، وهو أصعب شيء بعد خدمة الملوك... وسائر العلوم خطؤها لفظي يمهلك للمراجعة وهذا العلم لا يمهلك".
يعد ابن ماجد أديبا وبحارا مجربا ومتمرسا، تحدث كثيرا عن الأدوات والممارسات والإمكانات في الموانئ ومجاري الدخول والخروج وعبور البحار المختلفة محددا الأماكن والعلامات والظروف الجوية والمناخية.
اليوم نحن في عالم مختلف عن عالم ابن ماجد، وليست مهارة الربان كافية لقيادة المركب، فالربان هو من يصنع القرار التنموي وينقل البنية التحتية لمستوى مختلف يسمح للقطاع بأن ينطلق، الربان اليوم هو من ييسر الأمر ويمكن ربابنة البحر على مختلف فئاتهم واهتماماتهم.