"ما رأت زينة وما لم تر" .. حين كانت بيروت تستغيث

"ما رأت زينة وما لم تر" .. حين كانت بيروت تستغيث
"ما رأت زينة وما لم تر" .. حين كانت بيروت تستغيث

يقوم فن كتابة الرواية على نقل تفاصيل لأحداث شكلت بمجملها لحظات قاسية أو سعيدة، تخبر عن قصة هنا أو خبرية هناك، عاشتها مدن وشوارع وأحياء، وتناقلت صورها من خلال أعين شهود عيان عاشوا ألم لحظات هاربة من تاريخ لن يكتب أبدا"...
رواية "ما رأت زينة وما لم تر" للروائي رشيد الضعيف صادرة عن دار الساقي للنشر في بيروت، تروي من منظور زينة البطلة المحورية للقصة، امرأة شابة من الطبقة الوسطى، تعيش في بيروت، وتعيش ارتدادات هذه المدينة منذ الحرب الأهلية، وتضطر إلى أن تكون شاهدة على أكثر الأمور بشاعة التي عصفت بتلك المدينة الحالمة، وهي انفجار المرفأ في الرابع من آب 2020.

قبل وبعد

تنقل الرواية بتشعب شخصياتها أحداث الرابع من آب 2020، قبل وبعد لحظة انفجار مرفأ بيروت وتحول بيروت إلى مدينة مكسورة تستغيث، يرفرف فوقها يوم الخراب ويتناقل العالم صور ثاني أكبر انفجار هز البشرية منذ بداية تكوينها.
يصور لنا الروائي رشيد الضعيف يوميات بطلته زينة، الأرملة التي تعمل منذ أكثر من ربع قرن خادمة في منزل الأستاذ فيصل وزوجته الست سوسن، خادمة ومديرة البيت، ويركز على تفاصيل تشير في أبعادها إلى كثير من المشكلات التي يعانيها الشعب اللبناني، فينقل لنا الكاتب من خلال عيون زينة وتنقلها بسيارتها صباح هذا اليوم جملة من هموم هذا الشعب الذي لا ييأس، من الغلاء المعيشي إلى ارتفاع سعر الصرف إلى أزمة المحروقات وهجرة الشباب وصعوبة إيجاد وظيفة، حتى أنه يصف لنا صعوبة إيجاد موقف للسيارة في شوارع مدينة تعج بالحياة، وغيرها من العواصف الاجتماعية التي لاحظتها زينة وهي تتنقل بسيارتها في زحمة سير خانقة فرضت عليها مراقبة المارة والمشاة والجالسين في المقاهي واستراق أزماتهم اليومية، جملة من المشكلات تنقلها شخصية زينة المتهالكة أصلا، بعد ما فقدته خلال الحرب الأهلية.

نذير شؤم

في الرابع من آب يبدأ يوم زينة بطريقة تنذر بالشؤم بعد أن توقع فنجان الشاي في مكان عملها، ثم تصطدم بالسيارة التي أمامها بعد أن تأخذها مشكلاتها في حالة من السهو لا تنتبه لما يجري من حولها، كيف لا ومتطلبات الحياة ترهقها، فهي معيلة لشقيقتها الستينية ماري وابنتها بشرى ابنة الـ19 التي تركت الجامعة محاولة البحث عن عمل لكنها لم توفق، وتمضي يومها مزروعة أمام شاشة التلفزيون تنتقل من مسلسل إلى آخر. زينة لم تضطر إلى العمل لو أن الموت لم يخطف زوجها وهي في أشهر حملها الأولى، حين غرق في سفينة هاربا من شر الحرب الأهلية إلى مكان أكثر أمانا فابتلعه البحر ولم تحصل على جثته. كذلك فيصل وسوسن كبرا في السن ويعيشان وحيدان بعد سفر ابنهما الوحيد إلى أمريكا، ليست المشكلة تخص زينة وحدها، بل هي مأساة وطن خطف منه أبناؤه، ودمره انفجار غاشم وقتل سعيه الدائم لحياة أفضل. كل هذه الرسائل تحملها الرواية وتحاول طرحها من خلال قضية انفجار المرفأ الذي فجر حقائق نعيشها، لكننا نحاول غض النظر عنها كي لا تزيد من تدميرنا.

الانفجار الحدث

إنها لحظة الانفجار، تنقلب الأحداث وتتسارع، وبينما كانت زينة تتحدث إلى جارتها التي تحمم طفلها على الشرفة، وتحاول صم أذنيها عن "نق" بشرى لعدم وجود ماء ساخن كي تستحم قبل الذهاب لمقابلة عمل، يقع الانفجار الحدث، يهتز الكون وتتوقف عقارب الزمن.. زينة وماري تحت الأنقاض، بشرى مصدومة لا تفهم ماذا يجري، مسعفون حولها، جاد ابن الأستاذ فيصل والست سوسن يتصل من أمريكا ليعرف مصير والديه، أبنية متصدعة وأخرى متساقطة، وزجاج متكسر يعزف أنشودة الموت، وطفل صغير ينفصل رأسه عن جسده وهو بين أحضان والدته بعد أن يقع عليه لوح زجاج، صور تدمي القلوب ولحظات من الجحيم ترسم ملامح بشعة للحظة قاسية عصفت بالبلاد والعباد.

صور واقعية

نجد أن الروائي رشيد الضعيف يختار نقل صور أكثر تعبيرا كمشهد الأسماك الواقعة من أحواضها وتحاول البحث عن الحياة بين دماء الجرحى، ومشهد الجراذين التي تنهش في جثث القتلى المبعثرة في كل مكان، وصولا إلى صورة فيصل الرجل المكسور والضائع الذي يجلس أمام شاشة التلفزيون عيناه تشاهد لكنها لا ترى، وسوسن جثة هامدة ملقاة على الكنبة، وبشرى تائهة تبحث في اللامكان. الجميع في حالة من الذهول، لا يعرف من يبحث عمن، ولا من يسأل عمن.. الجميع جريح الجميع في عداد الأموات، منهم من رحل فعلا ومنه من بقي شاهدا صامتا على انفجار هز الكون بأسره وقضى على أحلام ما كانت لتتحقق، لكنها كانت ستبقى أملا يشد رحاله نحو غد مشرق ويوم جديد.

انفجار في ثانية

يرصد الروائي اللبناني، رشيد الضعيف في "ما رأت زينة وما لم تر"، جميع فصول الجريمة، كما وقعت على قلب الأهالي في المنطقة المحيطة بمرفأ بيروت، يروي من خلال شخصيات روايته وما تناقلته عيونهم، التفاصيل الدقيقة التي رافقت لحظاتهم الخاطفة قبل الموت المحتم، ويرسم كيف انقلب الشارع الهادئ والفارغ إلا من غضب صامت لواقع اقتصادي واجتماعي متهالك، إلى كتلة نار مشتعلة، أخرجت الشوارع عن صمتها والأحياء عن نمطيتها، أفرغت المنازل والأحياء والدور، وتحول السكان إلى رماد والأبنية إلى ركام، وأصوات الـ"أهلا وسهلا" تحولت إلى نداءات استغاثة، جحيم أدخل العالم في دوامة من فراغ، يبحثون عن موت مؤجل أو أجل محتوم. ثانية بدلت الملامح والوجوه وغيرت الأحلام وبددت الآمال، انفجار في ثانية خلف وراءه أجيالا من الحزن والوجع والضياع.

اللغة العامية

تتميز الرواية بأسلوبها الأدبي الغني، ولغتها الشاعرية. كما أنها تقدم قراءة جديدة للحرب الأهلية اللبنانية، وتسلط الضوء على تجارب النساء خلال هذه الفترة، ويمزج رشيد الضعيف في روايته، كما اعتاد في رواياته السابقة، بين العامي والفصيح، كأنه يريد إشراك القارئ في أحداث روايته، يكتب بلغة الصورة حتى يحول متصفح كتبه إلى جزء من الحدث، يترجم الأحداث إلى مشاهد ويطوع الحرف لخدمة الصورة، يروي بصدقه المعتاد ما رآه يوم الرابع من آب في حوض المرفأ، يوم كانت بيروت تستغيث، ويقدم رواية قوية ومؤثرة تستحق أن تتحول إلى عمل سينمائي يؤرخ يوما عاصفا في تاريخ مدينة قدر لها أن تعيش هذه المأساة.
"ما رأت زينة وما لم تر" قصة تصلح أن تتحول إلى فيلم سينمائي مكتمل العناصر لا ينقصه سوى عبقرية ممثل وإدارة مخرج، وقد حازت جائزة "محمد زفزاف للرواية" العربية لمؤسسة منتدى أصيلة.

الأكثر قراءة