العملات .. مسيرة التحول من المثقال إلى الافتراضي

العملات .. مسيرة التحول من المثقال إلى الافتراضي

ذاع القول إن المال جعل العالم يدور، لكن المال الذي أضحى بأشكاله المتعددة وصيغه المختلفة لغة مشتركة يتحدثها، من الناحية التاريخية حدث أو طارئ في مسيرة الإنسانية، فالعالم كان دون نقود إلى غاية الثلاثة آلاف عام الأخيرة، بذلك يكون اختراع النقود، من حيث الزمن، متأخر نسبيا مقارنة بعمر الحضارة الإنسانية الطويل جدا.
نتداول النقود في حياتنا اليومية دون أن يراودنا سؤال فكرة المال الذي يعني باختصار شديد أي شيء يحدد قيمة الشيء الذي ترغب في الحصول عليه، التي لعبت دورا محوريا في تطور الحضارة والاقتصاد عبر العصور. بعبارة أدق، كيف اهتدى الإنسان إلى اختراع المال؟ وكيف نجح في استخدام مفهوم المال كقيمة للشراء والبيع؟
اختلفت النظريات حول أصول فكرة المال باختلاف الأغراض والوظائف التي تتغير مع التقدم البشري، وإن كان الاستخدام الأول له، ولفترة طويلة جدا، كوسيلة لتسهيل عمليات التبادل باعتباره مقياسا للقيمة، ثم وحدة حساب تيسر التعامل بين الأفراد، فضلا عن أدواره السياسية المتعددة باعتباره أداة لإدامة الهرمية الاجتماعية، ووسيلة لإحكام سلطة الدولة.
أسهم تطور نظام المقايضة، القائم على تجارة مباشرة للبضائع والخدمات، المعمول به منذ مرحلة فجر الإنسانية، في الدفع إلى اختراع فكرة النقود. فالتبادل المباشر بين الطرفين للسلع، ولد المقايضة نظير أشياء معينة ذات قيمة (المواشي، جلود الحيوانات، الأسلحة...)، فصارت هذه الأخيرة تستخدم كعملات، في هذا النظام، بدلا عن المبادلة بقالبها التقليدي التي أضحت عاجزة عن مواكبة تعقيدات الحياة البشرية.
واختلفت عملات المقايضة باختلاف الحضارات والشعوب، فلدى الشعوب بسواحل المحيط الهندي كانت الأصداف عملة رائجة في التجارة، وكان الملح بعدد من المناطق في العالم إحدى أقدم طرق الدفع، حتى قيل إن كلمة الراتب "salary" مشتقة من كلمة "salarium" ويقصد بها الأموال التي تدفع للجنود الرومان لشراء الملح، وظل العملة الرائجة للمقايضة حتى وقت متأخر جدا في بلاد إثيوبيا والسودان، وفي مناطق عديدة بأمريكا الوسطى كان الكاكاو عملة شائعة، ولدى الأوروبيين، تحديدا في أماكن بإيطاليا، كان الجبن عملة للتداول وحتى الضمان.
تاريخيا، يصعب التدقيق في موطن الظهور الأول للعملة بالشكل الحالي، فروايات تتحدث عن استخدام الشيكل الذي يعمد في وزنه على الشعير، عملة في بلاد ما بين النهرين بالعراق، وأخرى تعد مملكة ليديا بآسيا الصغرى الموطن الأول لعملة مصنوعة من خليط لمعدني الذهب والفضة، في عهد الملك آلياتيس، خلال الفترة ما بين 610 و560 قبل الميلاد، لدفع رواتب الجيش.
من جانبهم، أسهم الصينيون في تطوير العملات بابتكار العملة الورقة عوضا عن العملة المعدنية، كحل اهتدى له التجار لتخفيف عبء التنقل بالقطع المعدنية، فضلا عن تأمينها من مخاطر السرقة والنهب. فظهرت فكرة الاستعاضة عن ذلك بمخطوط يثبت مقدار ملكيتهم من المال دون الحاجة إلى حمله، حيث يبقى وديعة عند أحدهم إلى حين تقديم الورقة بين يديه للمطالبة باستخلاص القيمة المثبتة على الورقة. وتطور العملية بإسناد الأمر إلى جهة موثوقة، عهد إليها بمهمة الإشراف وتطويق التلاعب والتزوير، بوضع أختام خاصة عصية على التقليد، مع تضمين الأوراق نقوشا تحذيرية مثل "سيتم قطع رؤوس المزورين".
لفتت هذه القفزة النوعية في عالم المال انتباه الرحالة الإيطالي ماركو بولو الذي تحدث بإعجاب عن قدرة الصينيين على صناعة عملات ورقية من أوراق شجر التوت، بدار مخصصة لذلك في مدينة خان بالق. وكتب بانبهار ودهشة من نجاعة وفاعلية هذا الاختراع، فقارن بسخرية بين الوضع هنا وهناك، فعبر عن دهشته بقوله: بينما استغرق الكيميائيون قرونا في تحويل المعادن إلى ذهب، حول الصينيون أوراق الشجر إلى مال. ولا يزال المتحف يحتفظ بأقدم قطعة نقدية ورقية، صدرت في الصين، تعود لنحو 960 بعد الميلاد.
خضعت الفكرة الصينية للتجويد، فباتت أساس طباعة العملات النقدية في العالم التي تكون على ورق بخصائص فيزيائية وكيميائية معينة، باستعمال حبر ذي تركيبة محددة، يطلق عليه الحبر المغناطيسي الذي يضفي ملمسا بارزا في الطباعة. لا تتم الطباعة على الورقة في ذات الآن، فبين الكتابة في الوجه والظهر حيز زمني قد يصل إلى 72 ساعة، مع الحرص على اتباع أرقام تسلسلية مكونة من ثمانية أرقام مع حروف، إغلاق الباب على أي محاولة للتزوير.
أسهم المستكشف الإيطالي في نقل الخبرة الصينية إلى مناطق في أوروبا، حيث شاعت العملات المعدنية فقط، فعام 1250 صكت فلورنسا عملة ذهبية باسم "فلورون" أسهمت إلى حد كبير في تنشيط حركة التجارة بين الدول داخل أوروبا.
قرن ونصف بعد ذلك، ستظهر فكرة المصاريف التي اهتمت بالدرجة الأولى بالديون التجارية والإقراض، ما شجع على تمويل الرحلات التجارية للتجار.
حديثا، قام مصرف ستوكهولم بطباعة أول ورقة نقدية في العالم بالسويد عام 1661، لكن التجربة فشلت بعد عجزه عن الوفاء بقيمة الأوراق التي أصدرها، فاضطر لإعلان إفلاسه. ثم ما لبث أن كرر العملية بعد أعوام، فنجح الأمر، ما عزز الإقبال على النقد الورقي مقارنة بالنقد المعدني. وشهد العالم أول عملية لتحويل الأموال عام 1871، وكانت بطاقة الائتمان التي استحدثت عام 1946، آخر حلقات هذا التطور، قبل ظهور العملات الرقمية "العملات الافتراضية"، ابتداء من عام 2008، لتفتح صفحة جديدة في مسار ومسيرة النقد بالتاريخ البشري.
اليوم، يبلغ إجمالي العملات المتداولة في العالم 151 عملة في العالم، أخذا في الحسبان وجود تكتلات تعتمد عملة واحدة، اليورو بالنسبة لدول الأعضاء في النادي الأوروبي. فضلا عن وجود دول لا تتوافر على عملة خاصة بها، رغم كونها من مظاهر السيادة، مثلما هي حال كل من الإكوادور والسلفادور اللتين اعتمدتا الدولار الأمريكي عملة خاصة بهما.
رقم يرجح أن ينخفض تحت ضغط العملات الرقمية التي باتت تفرض نفسها تدريجيا في مسايرة من عالم المال لتطورات العوالم الرقمية، ما يعد بفصل جديد من فصول رحلة العملات الطويلة في التاريخ البشري.

الأكثر قراءة