«حيدر بن زرع النيل» .. عن الأيام التي سبقت مذبحة القلعة

«حيدر بن زرع النيل» .. عن الأيام التي سبقت مذبحة القلعة
«حيدر بن زرع النيل» .. عن الأيام التي سبقت مذبحة القلعة
«حيدر بن زرع النيل» .. عن الأيام التي سبقت مذبحة القلعة

أصوات طلقات رصاص وصرخات وبكاء وعويل، هذه كانت أجواء مذبحة القلعة التي تصورها رواية "حيدر بن زرع النيل.. صفحات سوداء في التراجم والأخبار"، للروائي المصري أيمن رجب طاهر، في قالب درامي وتاريخي مميز.
ففي الرواية، يشترك شاب سوداني في توثيق صفحات من تاريخ مصر مع شيخ المؤرخين عبدالرحمن الجبرتي، في الربع الأول من 1811، وتصور أحداثا تتشابك مع حياة عائلة سودانية هاجرت إلى القاهرة منذ زمن بعيد، بفعل حادثة مأساوية مؤثرة.

أرض خيالية .. وأسماء متفردة

يعترف طاهر في إهداء روايته، الصادرة هذا العام عن دار كيان للنشر والتوزيع في مصر، بأن شخصية "حيدر بن زرع النيل" القادم من أرض الفور "خيالية"، لكنه يكن كل احترام لما غرسه في نفوس أحفاده من خلق الكبرياء وعزة النفس، ففي زمان ما وأماكن عدة عاشت هذه العائلة السودانية في القاهرة، ويهدي إليها هذه الرواية.
حيدر السبعيني القادم من بلدة نيالا، جنوب دارفور، غربي السودان، يستذكر مسقط رأسه في قصصه التي يرويها لأحفاده، لتعيش أكثر مما سيعيش، وينقلهم لأجواء أرض بلا شوارع ولا ميادين ولا مماليك يتحكمون في رقاب الناس على حد تعبيره، يستذكر كذلك زمنا غابرا حيث صيد الغزلان، ونصب الفخاخ للطيور، والركض وراء الأرانب، وقطف الثمار الناضجة من أغصان الأشجار، والتبرد بالسباحة في مياه روافد الأنهار الجارية.
ولعل المتبحر في الرواية يلفته حتما اختيار أسماء شخصياتها، فوالد العجوز حيدر يحمل اسما غير مألوف "زرع النيل"، مثل حفيده "سر النهر" وحفيدته "زينة الوادي"، وزوجته "دار النعيم"، وهي أسماء اختارتها تلك العائلة لتجعلهم يشعرون بجذورهم، لكنها في الوقت ذاته كأسماء أخرى في الرواية اختيرت بتفرد وعناية، مثل كافي وكنانة وحريص والناجي والعربي، لتصيغ رواية لا تشبه غيرها، لا فكرة ولا حتى اسما.

 

اقتلاع من الجذور

يخبرنا أيمن طاهر في قصته عن بدايات هذه العائلة، التي يرويها حيدر بحسرة، حينما اختطف مع أخيه حمزة واقتيدا مع نحو 30 صبيا إلى الصحراء، وهناك هلك منهم أربعة صبيان أثناء إخصائهم تمهيدا لبيعهم كعبيد، بغرض الخدمة في القصور والأراضي وبيوت الأثرياء، ومنهم أخوه حمزة الذي فارق الحياة، ولم يمهله القدر لأن يشهد لحظة الفرج على يد والدهما "زرع النيل"، الذي هاجر بحثا عن ولديه، فوجدهما وصدم بما رأى، بل انكسرت نفسه، وفضل أن يقتلع جذره من أرض الفور ليكمل هجرته إلى القاهرة.
تشتعل الأحداث وتبدأ حبكتها تزداد حرارة مع الشيخ عبدالرحمن الجبرتي، وهو شخصية حقيقية لمؤرخ مصري مولود في القاهرة وأصوله تعود إلى جبرت في أرض الحبشة، أبوه من علماء الأزهر، هاجر أحد أجداد أبيه إلى مصر واستقر في عاصمتها، ورغم أن والده الشيخ حسن كان مزواجا، لم يعش له غير عبدالرحمن، فزوجه وهو صغير لم يكمل الـ15 من عمره.
وفي الثلث الأول من الرواية، نقف عند حاجة الجبرتي إلى من يملي عليه الأخبار فيكتبها، لأن يده مصابة، فيتولى هذه المهمة الشاب "سر النهر"، حفيد حيدر، الذي فرح بوجوده في مكتبة سمع عنها الأساطير، ووجد فيها ملاذا للابتعاد عن الحديد وطرق السندان ليل نهار من صنعة الحدادة التي تمتهنها العائلة.

نهاية ألف إنسان

المذبحة الشهيرة ينقلها طاهر من أكثر من زاوية، فالمشهد كما يراه حيدر رفقة الشيخ الجبرتي، حينما قام الجند بتوجيه بنادقهم نحو المزدحمين خلف باب العزب، والطلقات تتناثر عليهم كالمطر، فبدأ بعضهم يسقط من على صهوات جيادهم الصاهلة، والزعاق يعلو، ويقاوح آخرون ليتقهقروا اتقاء الرصاص، فيرميهم الجند من خلفهم ومن أمامهم ومن أعلى الحيطان.
أما سر النهر، فرأى عبر المنظار باب العزب المغلق، وجند يصوبون بنادقهم ويطلقون الرصاص في سرعة، لمح بعضهم آخر السور من ناحية القلعة يجاهد للوقوف على صهوات خيولهم، محاولين اعتلاء الجدران الصخرية، ولم يلبث الواحد منهم أن يهوي بين سيقان أحصنتهم، يتدافعون أعلى الممر، ومن يسقط تهرسه أقدام الفارين، ولا سيما المماليك الذين لا يدري أي منهم سبب الحرب التي شبت مرة واحدة.
وفي غضون صفحات الرواية التي تقع في 245 صفحة من القطع المتوسط، يندهش "سر النهر" من حوادث النهب والسرقة التي أعقبت الحادثة، وتمنى أن يكون ما رآه كابوس ينتظر بين لحظة وأخرى أن يستفيق من إطباقه على صدره، إذ رأى الجند يقتحمون الباب الأمامي لبيت كبير من المماليك، طعنوا الخادم، ونزلوا من على صهوات خيولهم يجمعون كل ما تطوله أيديهم من نفائس، حتى إن أحدهم أمر صاحب عربة يجرها بغل بأن يتوقف ليحمل عليها كل ما يغتنمه.
ويوثق الشيخ الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، أو ما يعرف بـ"تاريخ الجبرتي"، محصلة هذه الحادثة بمقتل أكثر من ألف إنسان، أمراء وأجناد وكشاف ومماليك، ثم صاروا يحملون رممهم على الأخشاب ويرمونهم عند المغسل بالرميلة، ثم يرفعونهم ويلقونهم في حفر من الأرض فوق بعضهم بعضا.t

 

ربط ذكي بلغة ثرية

يجيد الروائي أيمن رجب طاهر كتابة اللغة الصعبة، الثرية بمصطلحاتها، التي تصف الأحداث والوقائع بدقة، فيشعر القارئ أنه جزء من الحكاية بما تحمله من سخونة ووصف قريب للخيال.
عن زمن صعب، يعود تاريخ الرواية إلى زمن الوالي محمد علي باشا، وفي ربط ذكي للأحداث يتعرف القارئ على الظروف المحيطة بمذبحة القلعة من خلال العائلة التي تمتهن الحدادة، وتصلح بعض البوابات وترممها من أجل إحكام إغلاقها وقت ساعة الصفر.
وفي دراما تنعكس على الإنسان المصري، صور الروائي تأثيرات هذه الحادثة في المصريين، والرعب الذي بثته في قلوب الأهالي، وما تبعها من حالات نهب وسرقة واستباحة للدماء، فضلا عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى ما يعرف تاريخيا بـ"مذبحة المماليك".
وعودة إلى غلاف الرواية الأنيق، فهو يشير إلى شخصية "سر النهر"، الذي يبدو كأنه يدون ما يمليه عليه الشيخ الجبرتي، ويسعى على الجانب الآخر إلى خطبة من يحب، في ظل الظروف المأساوية التي تعيشها العائلة والمدينة بأكملها.
يتتبع القارئ في رواية "حيدر بن زرع النيل" حياة ثلاثة أجيال من العائلة، الجد والابن والحفيد، في حبكة روائية متقنة، استمدها الروائي من تاريخه وخبراته الأدبية، فقد صدرت له أكثر من 17 رواية، منها "أنسباي"، و"الهجانة" الحائزة جائزة كتارا للرواية العربية، و"القحط" الحائزة جائزة الدولة التشجيعية في 2016، إضافة إلى عديد من القصص والمسرحيات، واعدا بحكاية ممتعة، يمتزج فيها التاريخ بالخيال.

رواية تاريخية أبطالها عائلة سودانية في القاهرة

الأكثر قراءة