العلا .. تاريخ وتمور وأسرار العصور
للعلا جذور عميقة في قلب وذاكرة التاريخ، وحضارات متعاقبة تنامت بين جبالها الحمراء، تشهد عليها المنحوتات الفنية في الصخر، التي توثق حقبة زمنية لأحد أشهر ممرات طرق التجارة منذ القدم، وإرثا تاريخيا يعزز مكانتها على خارطة السياحة الثقافية.
في المتحف الطبيعي المفتوح "العلا"، حضرت "الاقتصادية" على أرض النخيل لتكشف جانبا من اقتصادها الثقافي، المتجلي في الإرث الطبيعي والإنساني، والمهرجانات المتواصلة التي تنظمها الهيئة الملكية لمحافظة العلا، ومن أبرزها مهرجان العلا للتمور الذي ينعش اقتصادها أهاليها هذه الأيام.
فسحة للتأمل
تشكل العلا فسحة للتأمل، ومكانا يبعث على الراحة النفسية، هكذا يتحدث كل من زارها، ولا سيما إن تجول في رحاب مدينة "الحجر" التاريخية، المدينة الجنوبية الرئيسة لمملكة الأنباط، أو كما تسمى "مدائن صالح"، أول موقع سعودي مسجل في قائمة اليونيسكو لمواقع التراث العالمي، أو مارا بقاعة المرايا الشهيرة، المشيدة من المرايا في قلب الرمال، دون أن تخل بالمشهد الصحراوي الطبيعي حولها، والمخصصة للفعاليات الثقافية.
ومما يشكل دهشة بصرية للسائح، آلاف النقوش القديمة على الصخر، التي تزخر بها العلا ويمكن لمحها والتقاط صورها بسهولة من قبل الزوار، مثل نقوش جبل عكمة، الذي أدرج في سجل ذاكرة العالم لمنظمة اليونيسكو لأهميته التاريخية، ويصل عدد النقوش المحفورة في هذا الجبل الصحراوي إلى أكثر من 300 نقش، تتضمن أكبر مجموعة من الكتابات الدادانية المنحوتة على الصخور في العالم.
ومع تسارع التطور الرقمي، واستثمارا لإمكاناته، أصبح لمدينة الحجر وجود رقمي في عالم الميتافيرس، على منصة "ميترافيرس ديسنترالاند" الافتراضية ثلاثية الأبعاد، وأصبحت هذه الوجهة الرقمية الجديدة أول معلم لمنظمة اليونيسكو يسجل ظهوره في العالم الافتراضي، ليكون متاحا للاكتشاف والاستكشاف أمام الزوار من شتى أنحاء العالم افتراضيا، قبل أن يزوروها على أرض الواقع، متبوعا بمواقع أخرى مستقبلا.
وبحسب الهيئة الملكية لمحافظة العلا، فإن دخول المدينة إلى عالم الميتافيرس يأتي في إطار عملية التجديد الشاملة التي تقوم بها الهيئة بهدف إعادة ابتكار المحافظة، وتقديمها بحلة جديدة لتصبح أكبر متحف حي في العالم، والتوعية بتاريخها البشري الممتد لنحو 200 ألف عام.
ذوق فخرنا
من أسرار العصور والتاريخ المتجدد، إلى مهرجان جاء تأكيدا على التاريخ العريق لمحافظة العلا في زراعة التمور، منذ نحو ثلاثة آلاف عام حتى اليوم، مهرجان العلا للتمور الذي انطلق تحت شعار "ذوق فخرنا".
المهرجان في نسخته الرابعة هو السوق الأول للتمور في شمال غرب المملكة، يسعى من خلال المزاد والسوق اللذين يقامان الجمعة والسبت من كل أسبوع إلى إتاحة الفرصة لمزارعي النخيل لتسويق وبيع محاصيلهم من التمور المتنوعة، وإيجاد تنافسية لتمور العلا في مختلف الأسواق المحلية والإقليمية والعالمية، حتى سجلت أرقاما قياسية في عدد الأطنان المنتجة من التمور، إذ يبلغ إنتاجها نحو 90 ألف طن سنويا، حصيلة 2.3 مليون نخلة مزروعة على عشرة آلاف هكتار من مزارع النخيل.
زراعة النخيل مهنة ورافد اقتصادي للدادانيين واللحيانيين الذين استوطنوا المنطقة في الألفية الأولى قبل الميلاد، وها هم أهلها اليوم يواصلون صون نخيلهم، والتعريف بخيراتها عالميا، من خلال مزاد يشارك فيه أكثر من 150 مزارعا، التقت فيه "الاقتصادية" مستثمرين من المملكة ودول الخليج والأردن وحتى كشمير، والذين حرصوا على شراء عشرات الأطنان من تمور العلا التي تحمل علامة الجودة، تتجاوز أكثر من 25 نوعا، منها أنواع حصرية تنفرد بها المحافظة، مثل "البرني" أكثر الأنواع شيوعا في العلا، ويمثل 80 فــي المائة من محصولها اللذيذ.
ابتكارات سيدات العلا
في مهرجان العلا للتمور، يمكن أن تشهد زراعة التمور في جميع مراحلها، بدءا من عمليات تلقيح النخل "التوبير"، ثم مرحلة جني التمور أو ما يعرف بـ"صرام النخل"، ومرورا بمرحلة التخزين "الشنة"، وأخيرا المزاد والتسويق والبيع.
ولا تنتهي تلك المراحل عند ذلك الحد، فالحرف اليدوية التقليدية تشكل جانبا مهما من الثقافة السعودية، حيث تعمل المرأة في سوق مهرجان التمور على إعداد وصناعة منتجات وحلوى التمور مثل "الحيسة" و"المعمول" و"دبس التمر"، إضافة إلى مشاركتها في الصناعات التحويلية المرتبطة بالنخيل مثل حرفة الخوص، وكذلك تشكيل منتجات خارجة عن المألوف، مثل المنتجات الطبيعية من زيت نوى التمر، ويتجاوز عددها 15 منتجا، تشمل الصوابين والكريمات ودهون الجسم والوجه، التي تكشف صانعتها عبير محمد أن هناك إقبالا كبيرا عليها لفوائد التمر وما يحتوي عليه من فيتامينات للبشرة والجسم من ترطيب وتفتيح، وإزالة لآثار البقع والتصبغات الجلدية.
وبالمثل، فعلت هيلة إبراهيم العنزي في تحويل "نوى" التمر إلى كحل للعينين، في عملية تستمر نحو شهر، مفيد في إطالة الرموش أيضا، وغيرهن من السيدات اللاتي يحاكين ببعض منتجات الصابون للمواقع التراثية مثل جبل الفيل، ويبتكرن منتجات جديدة من إرث التمور.
ومن عالم التمور، إلى مهرجان العلا للاستجمام والاسترخاء في موسمه الثالث، الذي يقام بدءا من اليوم حتى الرابع من نوفمبر المقبل، حيث تستعد العلا لاستقبال زواره بسلسلة من النشاطات المخصصة للعناية بسكون العقل، وصفاء الروح، وصحة الجسد، ويكشف عن القدرة العلاجية للصمت، والفنون، والطبيعة مع تجارب استشفائية متكاملة، تجعل من العلا وجهة مثالية وملهمة.
رحلة عبر الزمن
يستذكر أهالي العلا في مجالسهم وعند استقبال ضيوفهم بن الأمير محمد بن سلمان ولي العهد أكبر عشاق العلا، وقد شوهد مرات عدة في صحاريها، ومنطلقا من هذا الاهتمام الكبير بإرث العلا وحضارتها، أعلن قبل نحو عامين الرؤية التصميمية "رحلة عبر الزمن"، وهو أول مخطط رئيس في إطار تطوير العلا، يشتمل على أكبر مبادرة لإحياء وتأهيل الواحات الثقافية والطبيعية بشكل مستدام في العالم.
ويتضمن مخطط الرحلة خمسة مراكز ثقافية يوفر كل منها تجربة سكنية وسياحية متكاملة، وخيارات متنوعة من منتجعات الضيافة العالمية، هي واحة البلدة القديمة، وواحة دادان، وواحة جبل عكمة، والواحة النبطية، ومدينة الحجر الأثرية.
ما يحدث في العلا من حراك ثقافي واقتصادي متسارع، تقوده مبادرات وبرامج وخطط "رؤية العلا" التي دشنت في 2019، ووصف حينها عملية تحولها إلى وجهة عالمية للتراث الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان محافظ الهيئة الملكية لمحافظة العلا ووزير الثقافة، حينما أكد أن العلا تقدم للمستكشفين من جميع أنحاء العالم وجهة فريدة، من خلال ماضيها الذي يمثل تاريخا حقيقيا للتبادل الثقافي والتجاري بين الحضارات المختلفة، داعيا علماء الآثار والمفكرين من جميع أنحاء العالم للمشاركة في استكشاف تاريخ الإنسانية في العلا، خاصة مع الدعم والاهتمام التي تحظى به العلا من ولي العهد لتحويلها إلى وجهة عالمية للتراث، وهو ما يمثل أحد أهداف رؤية المملكة 2030.
آنذاك، شهدت رؤية العلا إحدى أهم خطواتها، إطلاق "شرعان"، الاسم الذي يحمل دلالتين، الأولى للمحمية الطبيعية التي أطلقت في 2019 لتضع معيارا جديدا في المنطقة لإعادة التوازن بين النظم البيئية، عبر تطوير الغطاء النباتي وزراعة أشجار الأكاسيا، وإطلاق الأنواع البرية في المحمية، فيما تتجلى الدلالة الثانية في منتجع شرعان، الذي تؤسسه الهيئة الملكية لمحافظة العلا، ليكون منتجعا منحوتا في الجبال، مستوحى من مملكة الأنباط، من تصميم المهندس المعماري الفرنسي الشهير جون نوفيل، ليكون جنبا إلى جنب مع منتجعات صحراوية أخرى توجد على أرض العلا، يحرص سياح العالم على الاستجمام والمبيت فيها، لانفرادها بطابع متفرد، قلما يتوافر في أي بقعة أخرى من العالم.
ووفقا لبيانات هيئة "العلا"، ستسهم المحافظة في إضافة ما مقداره 120 مليار ريال للناتج المحلي للمملكة بحلول 2035، التي سيتم ضخ معظمها في الاقتصاد المحلي لمحافظة العلا، فضلا عن إشراك المجتمع المحلي في التنمية الشاملة التي يتيحها التراث الطبيعي والإنساني في العلا، في دلالة على ما يحمله التراث والثقافة والتاريخ من خير ونماء.