السيولة الرخيصة تضرب البنوك
نتائج التضخم الأخيرة في أمريكا تشير إلى عدم قدرة مجلس الاحتياطي الفيدرالي على السيطرة على تضخم الأسعار، وتوجيه نسبة التضخم السنوية إلى الرقم السحري 2 في المائة، ما يعني احتمال استمرار معدلات الفائدة عند مستويات عالية لفترة أطول من المتوقع. ومع ظهور النتائج المالية للبنوك المحلية والأمريكية خلال هذه الأيام ستتجه الأنظار إلى قراءة المراكز المالية ونتائج الأرباح للبنوك، في محاولة لاكتشاف أي من البنوك سيكون معرضا أكثر من غيره لمخاطر ارتفاع معدلات الفائدة.
هناك من يعتقد أن أزمة انهيار بعض البنوك الأمريكية في مارس الماضي لم تنته بعد، وأن ما حدث مجرد محاولات لاحتواء الأزمة، ومع استمرار معدلات الفائدة في الارتفاع أو البقاء عند مستوياتها العالية الحالية، فمن شبه المؤكد أن هناك ضحايا جددا في الطريق، وهي مجرد مسألة وقت حتى تتبين حدة الأزمة.
تراجعت ودائع البنوك التجارية الأمريكية بنحو تريليون دولار منذ بداية برنامج رفع معدلات الفائدة أوائل عام 2022 من نحو 18.2 تريليون إلى 17.2 تريليون دولار عقب انهيار بعض البنوك في أبريل الماضي، نتيجة نزوح بعض الأموال خارج البنوك خوفا من الانهيارات، وكذلك نتيجة البحث عن عوائد أفضل مما تقدمه البنوك. وهنا تأتي مشكلة البنوك في الفترة المقبلة، كون أحد أهم مقاييس الأداء بالنسبة إلى البنوك هناك هامش ربحية الفائدة الذي يتأثر في جانب الإقراض إيجابا مع ارتفاع معدلات الفائدة، ويتأثر سلبا نتيجة ارتفاع معدلات الفائدة التي على البنوك دفعها للعملاء.
لا شك في أن هناك بنوكا كثيرة خاطرت بالمال الرخيص الذي دخل إليها نتيجة عمليات ضخ السيولة التي قام بها الفيدرالي في أعوام سابقة، وأهمها على الإطلاق ما حدث خلال أزمة كورونا حين قامت البنوك بالاستفادة من العوائد العالية نسبيا للسندات طويلة الأجل، لكنها سرعان ما تلقت صفعات موجعة حين قام الفيدرالي برفع معدلات الفائدة بدءا من 2022. من المهم الإشارة إلى أن الفيدرالي، وأي بنك مركزي آخر، يستطيع بسهولة تامة رفع السيولة البنكية بمجرد شراء الديون من الأسواق على هيئة سندات خزانة وسندات رهونات عقارية، بهدف مد الاقتصاد بالسيولة الكافية لتحريكه من أي ركود محتمل. لكن الفيدرالي لا يستطيع إيصال تلك الأموال إلى مفاصل النشاط الاقتصادي الذي يعتمد على العرض والطلب والطاقة الإنتاجية في البلاد، لذا كان قرار كثير من البنوك الاستفادة من السيولة الرخيصة في شراء سندات طويلة الأجل للاستفادة من تباين أسعار الفائدة لمصلحة البنوك. وكانت ستستمر هذه الآلية البسيطة لتحقيق أرباح كبيرة لولا أن معدلات الفائدة خالفت التوقعات وأخذت في الارتفاع.
بالنظر إلى أداء أحد أكبر صناديق السندات المتداولة الذي يدير نحو 40 مليار دولار من السندات طويلة الأجل، نجد أن سعر السهم في الصندوق انخفض من قمته في صيف 2020 عند سعر 171 دولارا إلى دون 85 دولارا قبل أيام قليلة، وكان أكبر نزول في السعر قد بدأ في أواخر 2021 حين تبين للمستثمرين خطورة ارتفاع معدلات الفائدة مستقبلا نتيجة ظهور بوادر أولية لارتفاع التضخم، الذي قال عنه الفيدرالي إنه ارتفاع مؤقت. كثير من البنوك تواجه المشكلة ذاتها التي تواجه صندوق السندات المتداول هذا، فهي تمتلك سندات أسعارها انخفضت بشكل حاد، وعليها تسجيل ذلك كخسائر غير متحققة لكن مؤثرة في ربحية البنوك التي تسجلها محاسبيا كأدوات قابلة للبيع وليس محتفظا بها حتى تاريخ استحقاقها. بنهاية الربع الثاني من العام هناك 310 مليارات دولار خسائر غير متحققة لدى البنوك الأمريكية، لذا هناك ترقب لما ستؤول إليه هذه الأرقام المخيفة بعد إعلان نتائج الربع الثالث.
بغض النظر عن نتائج البنوك التي تعلن هذه الأيام، التحديات أمام البنوك كبيرة، وذلك أحد أهم أسباب فقدان البنوك السعودية جزءا كبيرا من قيمها السوقية، الذي وصل بحسب ما أظهره رصد صحيفة "الاقتصادية" إلى 139 مليار ريال منذ بداية العام الجاري. كثير من البنوك ستحتاج إلى رفع مخصصات الائتمان تحسبا للفترة المقبلة، ما سيؤثر في النتائج المعلنة في الفترات المقبلة. بعض البنوك الأمريكية أفضل من غيرها في إدارة السيولة، وهي التي لا تزال تحافظ على أسعار أسهمها، مثل جي بي مورجان، وبعضها بنوك كبيرة مثل سيتي بنك وبنك أوف أمريكا لديها انكشاف على سندات طويلة الأجل، وصعوبات في محافظ القروض، وبالتالي تراجع أسعار أسهمها.