منهجية مواجهة التحديات الاقتصادية المقبلة
رفعت أغلب الاقتصادات حول العالم حالة ترقبها وتأهبها تجاه عديد من التحديات والاضطرابات المحتملة خلال الفترة المقبلة (2024 - 2026)، كان صندوق النقد الدولي قد رسم أهم ملامحها مع منتصف العام الجاري، وفقا لما نشره في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي ليوليو 2023، بدأها بتوقع تباطؤ متوسط نمو الاقتصاد العالمي إلى 3.0 في المائة خلال العامين المقبلين، مقارنة بنموه بنحو 3.5 في المائة خلال 2022، وأشار أيضا في توقعاته إلى استقرار النمو في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية عند 4.0 في المائة، ونحو 4.1 في المائة خلال عامي 2023 و 2024 حسب الترتيب، مقارنة بمتوسط نموها خلال 2022 بنحو 4.0 في المائة. كما توقع الصندوق أن يستمر التراجع في معدل التضخم العالمي خلال العامين المقبلين، نتيجة للسياسات النقدية المتشددة التي اتخذتها البنوك المركزية طوال الفترة الماضية، حيث تراجع التضخم العالمي من معدل 8.7 في المائة خلال عام 2022، ليستقر وفقا لتقديرات الصندوق عند 6.8 في المائة خلال العام الجاري، وأن يواصل التراجع إلى 5.2 في المائة بنهاية 2024، كما توقع الصندوق تراجع معدل التضخم بنحو 2.8 في المائة في اقتصادات الدول المتقدمة خلال 2024، وأن يتراجع أيضا في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية إلى 6.8 في المائة خلال العام نفسه.
وبالنظر إلى تلك التوقعات أعلاه، فإنها تظهر على الرغم من تراجع حدة التضخم مقارنة بـذروته الأعلى خلال أربعة عقود زمنية في 2022، إلا أنه يأتي أعلى معدلات النمو الاقتصادي المتوقع طوال الفترة المقبلة، كما أنه أيضا لا يزال أعلى من مستهدفات البنوك المركزية (2.0 في المائة) طوال العامين المقبلين، ما يعني بدوره أن البنوك المركزية، وإن قامت ببعض إجراءات خفض معدلات الفائدة خلال تلك الفترة، فإنها لن تعود إلى مستوياتها الصفرية التي كانت عليها قبل الربع الأول من 2022، وأن إجراءات الخفض المحتمل للفائدة ستعود بها خلال العامين المقبلين إلى منتصف الطريق الذي وصلت إليه البنوك المركزية، ولن تضطر إلى خفضها بأكثر من ذلك إلا في حالات الانكماش الحاد للاقتصادات والأسواق، بهدف تعزيز الاستقرارين الاقتصادي والمالي عالميا، وهو التطور المحتمل قياسا على المؤشرات الأساسية التي بدأت بالكشف عن نفسها في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والصين، التي أصبحت كل منطقة من تلك المناطق المؤثرة في الاقتصاد العالمي تعاني اختلالاتها الداخلية بحسب كل منطقة، كما تعاني في مجموعها بالنظر إلى الصراعات التجارية القائمة بين تلك المناطق الأكثر تأثيرا في الاقتصاد والتجارة العالميين، ولا يحجب الاهتمام والتركيز بكل ما تقدم ذكره، التحديات الأصعب الناتجة عن الآثار المحتملة لتفاقم الصراعات الجيوسياسية السابقة زمنيا في شرق أوروبا (روسيا - أوكرانيا)، ولا تلك الأخرى المستجدة زمنيا بوتيرتها الساخنة خلال الفترة الراهنة في الشرق الأوسط، التي بدأت قبل عدة أيام قليلة جدا، ولا يعلم متى موعد ولا نطاقها المحتمل، خاصة أنها لا تزال في بداياتها المبكرة جدا.
إنها حلقات من التحديات الدولية الآخذة في الاتساع من جهة، من جهة أخرى المستجدة الأنماط والمواقع والآثار المحتملة! بما تشكل في مجملها مخاطر مختلفة على عديد من المستويات، يهمنا هنا ما يتعلق بالجوانب المالية والاقتصادية، وكيف حددت المملكة سياساتها واستراتيجياتها اللازمة للتعامل بكفاءة عالية معها، وصولا إلى التصدي اللازم لأي آثار وانعكاسات محتملة قد تصل إلى واقعنا المالي والاقتصادي، وهو ما تضمنه البيان التمهيدي الأخير الصادر عن وزارة المالية، التي بدأته في هذا الشأن الحيوي بالتأكيد على أهمية عملية تحليل تلك المخاطر المالية والاقتصادية، المحتمل أن يواجهها الاقتصاد المحلي، وما تمثله تلك العملية كجزء حيوي يصب في فهم الوضع الراهن والتحديات الرئيسة بدقة وكفاءة، ستؤدي بتحققها إلى المساهمة في تبني السياسات والاستراتيجيات الفعالة واللازمة، التي ستتيح التعامل مع هذه المخاطر وتحقيق الاستدامة المالية للمملكة، وتوفر الحماية الكافية للاستقرار الاقتصادي المحلي. وفقا للبيان التمهيدي، سيؤدي تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، واستمرار الموجة التضخمية، إلى حدوث تداعيات سلبية محتملة على الاقتصاد المحلي، ذلك أنه يزيد احتمالات ارتفاع معدلات التضخم المحلية، ما قد يتسبب في تراجع الطلب وانخفاض مؤشرات الاستهلاك المحلي، وسيحدث كل ذلك إلى جانب استمرار ارتفاع معدلات الفائدة، والتأثير السلبي المحتمل لكل ذلك في تباطؤ نمو الأنشطة الاستثمارية محليا، آخذا في الحسبان أن تشديد السياسة النقدية الذي انتهجته أغلبية البنوك المركزية حول العالم، أدى إلى رفع تكاليف الاقتراض/التمويل وتباطؤ النمو الائتماني.
وأمام بدء تراجع معدلات التضخم العالمية، والاستقرار النسبي لمعدلات التضخم المحلية، ترى المالية العامة أن المخاطر التي قد تؤدي إلى تراجع الطلب المحلي تعد منخفضة الاحتمالية، إلى جانب مواصلة مساهمة مبادرات تعزيز دور القطاع الخاص وانعكاساتها على دعم مؤشرات الاستهلاك والاستثمار، إضافة إلى التحسن المستمر في معدلات التوظيف والتوطين، حيث بلغ حجم مساهمة القطاع الخاص من الناتج المحلي الإجمالي نحو 41 في المائة خلال 2022، مقابل العمل وفقا لمستهدف رؤية المملكة 2030 للوصول به إلى 65 في المائة، وهي العوامل في المجمل التي من شأنها -بتوفيق الله- أن تؤثر إيجابيا وتسهم في الحد من الآثار المتحملة لتلك المخاطر في نمو الناتج المحلي غير النفطي. هذا إضافة إلى ما أسهم به قرار المملكة بتمديد الخفض الطوعي لإنتاجها من النفط حتى نهاية العام الجاري في تعزيز الجهود الاحترازية التي تبذلها دول "أوبك+" بهدف دعم استقرار أسواق البترول العالمية وسط التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي، يتوقع أن يؤثر هذا القرار إيجابيا في استقرار أسعار النفط في الأجل المتوسط، والتأكيد أيضا على ما يتمتع به الاقتصاد الوطني من وضع مالي متين، يدعمه توافر احتياطيات حكومية قوية، ومستويات دين عام مستدامة، ستمكن من احتواء أي أزمات محتملة في المستقبل.
ختاما؛ تبنت الحكومة تدابير وسياسات عديدة تمكنها من مواجهة المخاطر المحتملة، بما فيها وضع سقف لأسعار البنزين، وتعزيز الأمن الغذائي، إضافة إلى تعزيز منظومة الدعم والإعانات الاجتماعية، ودعم السلع والخدمات الأساسية. كذلك تعزيز القطاع غير النفطي وتنميته. وفي ضوء تلك التطورات العالمية والمحلية؛ فقد تم العمل على سيناريو أعلى وسيناريو أقل للإيرادات، بناء على التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي والمخاطر الجيوسياسية، ستسهم تلك التقديرات المستخدمة في تأكيد استعداد الحكومة، للتعامل مع أي من هذه السيناريوهات، وبناء مساحة مالية أكثر مرونة، كما سيسهم الاعتماد على تقديرات الإيرادات الهيكلية في الحد من الإنفاق المساير لتذبذبات أسواق البترول.