العقد الضائع وقتامة التوقعات

كثرت التوقعات من الخبراء الاقتصاديين والمنظمات الدولية المتخصصة حول مؤشرات نمو الاقتصاد العالمي الذي واجه خلال الفترة الماضية عواصف ومعوقات متنوعة في حركة نموه، ومن هنا لم تكن تكهنات برنامج الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، للنمو الاقتصادي العالمي، جديدة أو حتى مثيرة للقلق، فهناك نمو على كل حال، لكنه أبطأ مما كان متوقعا، حيث تراجعت الآمال من 3 في المائة العام الماضي إلى 2.4 في المائة في 2023.
نقول ونكرر لا شيء جديد، فلا يزال تأثير التوترات الجيوسياسية والحروب والصراعات قائما كأحد أهم عوامل تباطؤ النمو الاقتصادي، فهذه الصراعات بقدر ما تحمل من تحفيز للصناعة والإنفاق العسكري بقدر ما تأخذ من قدرات الاقتصادات العالمية من تبادل السلع والخدمات وانتقال العمالة، فالصراع السياسي أو التوترات العسكرية يؤثر بشكل واضح في سوق العمل، ويتسبب في اضطرابات مثل ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض مستوى الرواتب بما يؤدي إلى آثار طويلة الأمد على الطلب، وبالتالي النمو الاقتصادي، كذلك يأتي موضوع التغير المناخي كأحد العوامل الأشد تأثيرا في النمو الاقتصادي، وقد شهد العالم خلال الأيام الماضية كيف أثرت الأمطار والفيضانات والسيول الكثيفة في بلاد شتى من المعمورة وطمرت الفيضانات مدنا بأكملها، في مقابل ذلك تواجه بعض المناطق ارتفاعا قياسيا في درجات حرارة الأرض، وهذا كله بتنوعه له آثار لا تمحى في الإنتاجية والاستدامة الاقتصادية. كل ذلك يأتي في ظل عدم اليقين بشأن القرارات الاقتصادية، خاصة أسعار الفائدة، مع استقطاب حاد وحرب تجارية قائمة بما يؤدى إلى تراجع الثقة وتأجيل الاستثمارات والتخطيط الاقتصادي، وهذا بدوره يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي.
كل هذه القضايا لم تكن جديدة، بل هي قابعة في ثنايا الاقتصاد العالمي منذ الأزمة المالية العالمية 2008، مرورا بالأزمة الصحية 2020، فالتضخم العالمي وأسعار الفائدة، فالأزمات التي تأتي تباعا تمارس ضغطا إضافيا، ما يقلب المنحنيات الاقتصادية من التباطؤ إلى الانكماش ثم يعود المسار إلى التباطؤ بفعل تلك القوى الهائلة التي لا تنفك تمارس ضغوطها على النمو الاقتصادي، التي أصبحت مستدامة، ما دفع تقرير "أونكتاد 2023" إلى القول "إن احتمال تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول 2030 يتلاشى"، حيث يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة وضعف العملات وتباطؤ نمو الصادرات إلى تقليص الحيز المالي اللازم للحكومات لمكافحة تغير المناخ وتوفير احتياجات شعوبها. وهكذا تبدو الصورة مقلوبة، فبدلا من أن تصبح التنمية مستدامة أصبحت تلك المشكلات العالقة هي المستدامة. لقد استخدم التقرير عبارة "عقد ضائع" A lost decade للتعبير عن مدى قتامة التوقعات عن تحقيق شيء ملموس بشأن الاستحقاقات العالمية خلال الأعوام المتبقية من هذا العقد، ونصح التقرير بتغيير اتجاه السياسات -بما في ذلك سياسات البنوك المركزية- وتحقيق إصلاحات مؤسسية من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أهداف هذا العقد، وذلك بإجراءات أشد جرأة لتحريك الاقتصاد العالمي في الاتجاه الصحيح من خلال استخدام مزيج متوازن من السياسات المالية والنقدية وتدابير جانب العرض لتحقيق الاستقرار المالي، وتعزيز الاستثمار الإنتاجي، وإيجاد فرص عمل أفضل.
وإذا كانت الأعوام التي مرت خلال العقد الماضي قد أفرزت هذه المشكلات التي بدت مستدامة، فإن آمال البرنامج الأممي في تحقيق تقدم تبدو في غير محلها، خاصة مع ما أقره تباين في التعافي بعد الجائحة على مستوى العالم بما يثير المخاوف بشأن استدامة تباطؤ النمو مع غياب تنسيق السياسات. هنا تجدر الإشارة إلى ما نشرته
"الاقتصادية" قبل أسابيع عدة بشأن تصريحات وزير التجارة والصناعة الهندي عقب اجتماع لوزراء تجارة دول مجموعة العشرين في راجاستان غربي الهند، بأن المجموعة تناقش الرؤى حول إصلاحات منظمة التجارة العالمية، وأن هذا الموضوع يمثل نقطة محورية في أعمال المجموعة، لكن رغم أن هذا الموضوع يناقش على مستوى قمة دول العشرين فإن هذه القواعد العالمية تؤثر في كل دول العالم، فهذه المشكلات القائمة في منظمة التجارة العالمية تؤكد أنها لن تحل بشكل جذري قريبا، وإذا كانت هذه المسألة بالذات تفاقم من مشكلة عدم المساواة، فإن التقرير الأممي يؤكد أن النمو العالمي سيتوقف مع اتساع فجوة عدم المساواة، ويتحدث بصراحة عن التفاوت الاقتصادي كتحد كبير، حيث تتأثر الدول النامية بشكل غير متناسب، بينما تهدد فجوة الثروة الآخذة في الاتساع بتقويض أي تعاف اقتصادي مقبل، وتهدد كذلك تطلعات الدول لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. كما أن أعباء الديون، ومزيجا من ارتفاع أسعار الفائدة وضعف العملات وتباطؤ نمو الصادرات ستؤدي بشكل متزامن إلى تقليص الحيز المالي اللازم للحكومات لتقديم الخدمات الأساسية، ما يحول عبء خدمة الديون المتزايد إلى أزمة تنمية، حيث يعيش الآن نحو 3.3 مليار شخص -ما يقرب من نصف البشرية- في دول تنفق على مدفوعات فوائد الديون أكثر مما تنفق على التعليم أو الصحة.
هذا التباين الصريح الذي أصبح ملازما للاقتصاد العالمي ليس عند مستوى الدول النامية فقط، بل أصبح ظاهرة عالمية، فمع اتجاه اقتصاد الولايات المتحدة نحو هبوط أكثر ليونة تقف أوروبا على حافة الركود، فلا تزال الضغوط التضخمية أكثر وضوحا مما هي عليه في الولايات المتحدة، ما يقود إلى تباطؤ الاقتصادات الكبرى وانكماش ألمانيا بالفعل. في مقابل هذا فإن الصين تنمو بمعدل أسرع من منطقة اليورو بأكثر من عشر مرات، ومع ذلك فقد أقر التقرير بمشكلات كامنة في الاقتصاد الصيني، حيث تواجه ضعف الطلب الاستهلاكي المحلي والاستثمار الخاص.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي