الغربي هنا والشرقي هناك
يأتي انتخاب الكاتب اللبناني أمين معلوف، الأسبوع الماضي، وفي سابقة تاريخية، أمينا عاما للأكاديمية الفرنسية، عكس التيار العارم في الأوساط الفرنسية، الرسمية والشعبية على حد سواء، المناهض لكل ما هو أجنبي، سواء كان مخالفا عرقيا أو دينيا أو حتى جغرافيا، أي غير فرنسي وإن كان أوروبيا، وربما مؤشرا قد يساعد على تخفيف وطأة الحملة المسعورة ضد الغرباء، ما وسع، وبشكل غير مسبوق، الشروخ في كل اتجاه داخل المجتمع الفرنسي.
أصبح معلوف أول شخص من أصل غير فرنسي، يتولى منصب قيادة واحدة من أعرق المؤسسات الفرنسية، فتأسيس الأكاديمية كان في 1634 زمن حكم الملك لويس الـ13، ولم تتوقف مطلقا عن العمل سوى عشرة أعوام (1793-1803) بسبب الثورة. بذلك يدخل في قائمة الـ32 شخصا الذين تعاقبوا على منصب يشغله صاحبه مدى الحياة، بعد فوزه على صديقه الطبيب والدبلوماسي جان كريستوف روفان بأغلبية مطلقة (24 مقابل ثمانية).
يذكر أن معلوف وروفان منتميان إلى الحقبة نفسها جيليا، فكلاهما من حقبة الخمسينيات، فضلا عن اشتراكهما في قائمة جائزة الغونكور، إحدى أعرق الجوائز الأدبية بعد نوبل، فابن بيروت نالها مبكرا (1993) عن روايته "صخرة طانيوس"، أما الطبيب الباريسي فلم يظفر بها حتى 2001 عن روايته "البرازيل الحمراء". علاوة على تقاربهما زمنيا في حجز رقم ضمن مقاعد الأكاديمية الـ40، فنصيب معلوف كان الكرسي 29 الذي كان يشغله الأنثروبولوجي كلود ليفي سترواس في 2011، ثلاثة أعوام فقط بعد انضمام روفان إلى أعلى صرح وصي على اللغة الفرنسية في العالم.
تلقت الأوساط الثقافية الغربية والشرقية، على حد سواء، تتويج معلوف بكرسي الأكاديمية خلفا للمؤرخة هيلين كارير دانكوس، بكونه رسالة حبلى بدلالات "رمزية رائعة لجميع الناطقين بالفرنسية في العالم". فيما عدت ريما عبد الملك وزيرة الثقافة الفرنسية، الفرنسية من أصل لبناني، أنه "اختيار ممتاز، كاتب عظيم، ورجل أخوة وحوار وتهدئة". وخاطبه منافسه على المنصب، تحت قبة الأكاديمية، قائلا: "كل أعمالك، كل أفكارك، كل شخصيتك، هي جسر بين عالمين يحمل كل منهما نصيبه من الجرائم، ولكن أيضا من القيم. هذه القيم هي التي تريد توحيدها".
انشغل معلوف مبكرا بردم الهوة بين الشرق والغرب، وتقديم رؤى مغايرة للطرفين، ففي باكورة أعماله بعنوان "الحروب الصليبية بعيون عربية" (1983)، قدم سردية غير مألوفة تطمح لبناء الجسور بين الثقافات. وتدريجيا، تحول الأمر إلى ركن ركين في مؤلفاته، حتى بات "تقويض وهدم جدار الكراهية بين الأوروبيين والأفارقة، بين الغرب والإسلام" معركته الأولى، كما ورد في خطاب قبوله أمام الأكاديمية الفرنسية "نحن في عالم مضطرب، وأعتقد أننا بحاجة إلى أماكن تمثل نوعا من الضمير الأخلاقي... أحلامي اليوم يساء إليها. جدار يرتفع في دول الشرق الأوسط في وجه العوالم الثقافية التي أطالب بها. هذا الجدار، لم أكن أنوي تجاوزه لأعبر من ضفة إلى أخرى، جدار المقت هذا... طموحي هو إزالته، ومحوه. هذا كان دائما علة حياتي، علة كتابتي".
تحدثت الصحافة الفرنسية عن صاحب "الهويات القاتلة"، فكتبت يومية "لوموند" عقب انتخابه على رأس الأكاديمية، متحدثة عن إمكانات الرجل وشخصيته الاستثنائية، "ماضي معلوف وأعماله يجعلان منه رجلا عابرا للحدود، مسكونا بسوء الفهم المحتمل الذي يفصل الغرب عن الشرق. كاتب قادر على بناء الجسور والثقافات، يكره التوترات القائمة على الهوية والجماعة". فيما عاودت صحف أخرى إثارة الأسئلة المحرجة عن قدرة الرجل على بث الروح في مؤسسة عاطلة، فمنذ أعوام بدأت حملة بشأن جدوى الأكاديمية: "إذا اختفت الأكاديمية إذا فلن يتأثر أحد"، "هل لا تزال الأكاديمية ذات نفع؟"، وبلغ الأمر بمجلة "إكسبريس" الشهيرة حد الترافع عن إلغائها في مقالة بعنوان "لماذا يجب إلغاء الأكاديمية الفرنسية؟".
يدرك أمين معلوف، بحكم موقعه داخل المشهد الثقافي الفرنسي، ما ينتظره من تحديات داخلية وخارجية، في وقت تشهد فيه فرنسا كقوة دولية عظمى وثقافية عالمية انحسارا على الصعيد العالمي، فصرح عقب انتخابه تحت قبة الأكاديمية بأنه: "مقتنع بأن مهمة الأكاديمية الفرنسية أصحبت اليوم أكثر أهمية مما كانت عليه في زمن ريشيليو - الكاردينال المؤسس - الأكاديمية عنصر أساسي في هوية الأمة وتأثير فرنسا في العالم".
يقينا، إن المهمة لست سهلة بالنسبة إلى كاتب استطاع أن يفهم مكامن "اختلال العالم" حين خلص في كتابه، بالعنوان ذاته، إلى أننا "نزداد ضياعا كلما ازددنا تقدما". فهل ينجح في تجاوز أعطاب مؤسسة صامدة طوال أربعة قرون، مع منتج معرفي هزيل جدا، فخلال هذه المدة الطويلة لم تصدر سوى ثمانية قواميس لغوية فقط، وفي يوليو الماضي تم إنهاء النظر في كلمات الطبعة التاسعة من القاموس بإجمالي كلمات يقارب ضعف النسخة السابقة، إضافة إلى تقاعس المؤسسة عن ترسيخ الفرنسية في العالم الفرنكفوني أمام المد الأنجلوفوني الجارف الذي بلغ عقر دار فرنسا.
معارك معلوف في الأكاديمية لا تقل ضراوة عن معاركه في الفكر والثقافة، فالشؤون المالية للمؤسسة في غاية التعقيد، فهي تعيش على عائدات أصولها المالية وعلى الهبات والتركات، ما يستدعي تدخلا عاجلا لإنقاذ المؤسسة. فضلا عن ضرورة محاربة الفراغ في كراسي المؤسسة بملء المقاعد الخمسة الشاغرة، فإجمالي الأعضاء حاليا 35 من أصل 40 مقعدا في المجمع، موزعين ما بين 28 رجلا وسبع نساء.
لا شك أن تعزيز الانفتاح سيكون خيار ابن لبنان لإنقاذ الأكاديمية، خاصة أنها بدأت هذه السياسة منذ أعوام حين انتخاب الروائي البيروفي ماريو فارجاس يوسا عضوا فيها عام 2021، وكذلك كان الحال قبله مع الكاتبة الجزائرية الراحلة آسيا جبار التي كانت وفية للكتابة بلغة موليير. ما من سبيل أمام المؤسسة سوى الانفتاح أمام أدباء العالم، ولا سيما الفرنكوفونيين، للخروج من عزلتها وانكماشها الأدبي والفكري والثقافي.
انفتاح لا تجد فرنسا عنه بديلا، لضمان بقائها في نادي الكبار، فزوابع الفنجان في السياسية والإعلام بشأن الأفارقة والمسلمين والهوية... وما إلى ذلك من شعارات رنانة، مجرد شهب لتورية حقيقة ساطعة عن التراجع المهين للإمبراطورية الفرنسية على جميع الجبهات وفي مختلف الأصعدة، فلولا الرأسمال البشري المستورد من مستعمرات سابقة -أمين معلوف مثلا- لنسجت فرنسا قصة أخرى غير تلك التي نراها اليوم.