عندما يجلس المرء في بريطانيا، ينتابه شعور بعدم الارتياح بأن العالم في الخارج يتسع. ومع اجتذاب أمريكا الصناعات الخضراء، وخسارة الحي المالي عمليات الإدراج وتضرر صناعة السينما بسبب إضراب كتاب هوليوود، يجب على المملكة المتحدة أن تحرص على الدفاع عن القطاع الذي نعد فيه قادة عالميين حقا: علوم الحياة.
إن المزايا التي نتمتع بها معلومة جيدا: جامعات ذات مستوى عالمي وباحثون مهرة، ونظام رعاية صحي مركزي شامل من المهد إلى اللحد، وقاعدة البيانات الجينية الأكثر تقدما في العالم تتمثل في البنك الحيوي للمملكة المتحدة (بايوبنك)، الذي قام بعمل التسلسل الجينومي لنصف مليون بريطاني. ولكن هنا يبدأ التألق بالأفول. إذ يعاني بايوبنك من الجمود والتحفظ الذين تتسم بهما هيئة الخدمات الصحية الوطنية، الأمر الذي يهدد تقدمنا في علوم الحياة في نواح عدة.
لقد وافق نصف مليون متطوع في بايوبنك على إتاحة بياناتهم الطبية للباحثين. ولكن في 4 من كل خمس حالات، وفقا للرئيس التنفيذي السير روري كولينز، لا يستطيع بايوبنك الوصول إلى تاريخهم الكامل. فهو يمتلك سجلات المستشفى الخاصة بهم ولكن لا يمتلك سجلات أطبائهم العامين، التي يرفض الأطباء العامون تقديمها بعد أعوام من الجدل المتواصل حول هذه المسألة.
يصف كولينز هذه البيانات المفقودة بأنها "عقبة كارثية أمام تحسين توفير الرعاية الصحية على المستويين الوطني والدولي". حيث توفر سجلات المستشفى إلى جانب الاختبارات الجينية رؤى عظيمة، على سبيل المثال حول مخاطر الإصابة بسرطان الثدي. ولكن دون بيانات الأطباء العامين، من الصعب إحراز تقدم كبير في حالات مثل الخرف أو مرض باركنسون أو الاكتئاب أو مرض السكري. إن الأعداد الصغيرة من الأشخاص الذين يدخلون المستشفى بسبب هذه الأمراض، أو يتم إدخالهم فقط في مرحلة متأخرة، تقلل من القدرة الإحصائية على الكشف عن الارتباطات. ويمكن للوصول إلى بيانات الأطباء العامين أن يضاعف عدد الحالات المتاحة لدراسة الأشخاص المصابين بمرض الانسداد الرئوي المزمن.
أثناء الجائحة، أدى ربط البيانات إلى إنقاذ الأرواح. وحددت تجربة "التعافي" في أكسفورد أربعة علاجات لكوفيد-19، من بينها عقار الستيرويد ديكساميثازون، الذي أنقذ حياة أكثر من مليون شخص حول العالم. وقد تم تحقيق ذلك لأن الحكومة تدخلت للسماح لباحثي كوفيد بالوصول إلى سجلات الأطباء العامين. لم تسقط السماء؛ لأنه لم تكن هناك انتهاكات شنيعة. لكن منذ ذلك الحين، عادت الأمور إلى الوراء. كانت محاولات تقييم ما إذا كانت هذه العلاجات يمكن أن تفيد المرضى المصابين بمرض كوفيد طويل الأمد، على سبيل المثال، تتعثر بسبب عدم وجود قاعدة بيانات مشتركة. البروفيسور السير مارتن لاندراي، الذي قاد تجربة التعافي، يقارن الموقف بـ "قراءة كتاب فقط لتجد أنه تمت إزالة عدة فصول وعديد من الفقرات وجمل عديدة (دون أن تعرف أي منها تمت إزالته)".
يعكس هذا الوصف الفكاهي للنظام البيزنطي السخط المتزايد بين الباحثين والأطباء الرياديين. في الأشهر القليلة الماضية، عادت المملكة المتحدة بصعوبة بالغة إلى برنامج إي يو هورايزن، ومنح المستشار جيريمي هانت القطاع مبلغ 650 مليون جنيه استرليني إضافي. لكن لا تزال هناك مشكلات أعمق. فقد تراجعت المملكة المتحدة في التصنيف العالمي للتجارب السريرية، حيث اتجهت شركات الأدوية إلى بلدان مثل إسبانيا وأستراليا بدلا منها. إن الفجوة الزمنية بين الموافقة التنظيمية على الأدوية التي يتم منحها والجرعة الأولى آخذة في الاتساع. وأخيرا، ألغت شركة نوفارتيس تجربة سريرية كبرى لعقار ثوري للكوليسترول في المملكة المتحدة، بعد أن أثنت الجمعية الطبية البريطانية والكلية الملكية للأطباء العامين الأطباء العامين عن بدء العلاج. وفي الوقت نفسه، يتم التخلي عن بعض مشاريع أبحاث السرطان بسبب مشكلات الوصول إلى البيانات.
المشكلات تذهب إلى أبعد من ذلك. يقول تيم فيريس، الرئيس الرقمي المنصرف لهيئة الخدمات الصحية الوطنية، إن الافتقار إلى ربط البيانات يعني أن الخدمة الصحية لا يمكنها أن تعرف في الوقت المناسب ما إذا كانت استثماراتها في أمور مثل خدمة الهاتف 111، أو الإحالات الاختيارية، أو الأجنحة الافتراضية فعالة. إذا تم إخبارك على خط الهاتف 111 بالذهاب إلى قسم الحوادث والطوارئ، فيمكن للنظام رؤية ما يحدث لك - ولكن ليس إذا أخبرك بالذهاب إلى طبيبك العام. هذا شيء سخيف.
يشعر الأطباء العامون الإنجليز بالقلق بشأن مشاركة البيانات لأنهم هم "مراقبو البيانات" القانونيين لمرضاهم المسجلين لديهم. نحو ربع الأطباء العامين يقومون بمشاركة البيانات طوعا. لكن كثيرين آخرين يقولون إنهم قلقون بشأن خصوصية البيانات الشخصية الحساسة، التي يتحملون مسؤوليتها.
لا أحد يريد أن يتم بيع سجلاته الطبية إلى طرف ثالث. إن الأطباء محقون في إصرارهم على أن الأنظمة الجديدة يجب أن تحتفظ ببيانات المرضى بشكل آمن وأن تستخدمها بشكل أخلاقي. ولكن في القرن الـ21، يبدو أن حرمان المرضى من الوصول إلى سجلاتهم الطبية أمر خاطئ. كما أن رفض الكشف عن بيانات المتطوعين لدى بايوبنك الذين وافقوا على ذلك هو أمر لا يحتمل. فهو يشير إلى أن المخاوف المتعلقة بالخصوصية قد لا تكون هي الدافع الحقيقي لهذا الرفض. في هذا الأسبوع، خططت هيئة الخدمات الصحية الوطنية في إنجلترا للكتابة إلى الأطباء العامين لحثهم على الإفراج عن البيانات إلى بايوبنك. لكن الجمعية الطبية البريطانية رفضت التوقيع على الرسالة، لأنه، كما أخبروني، لدى الأطباء العامين "أولويات عاجلة منافسة" ويحتاجون إلى "تشاور كامل ومناسب" حول هذه القضية. يقول كولينز إنه لا يتعين عليهم سوى "الضغط على الزر".
تم تجنيد متطوعي بايوبنك بين عامي 2006 و2010. وهم يخضعون لاختبارات منتظمة ويعبئون الاستمارات، خدمة للمصلحة العامة. ومن المحتمل أن يندهشوا عندما يعلمون أن الجمعية الطبية البريطانية أمضت أعواما في معارضة والإفراج عن بياناتهم من هوية أصحابها: على الرغم من أن مفوض المعلومات أكد قبل خمسة أعوام أن ذلك يعد قانونيا.
لا تمثل المخاوف المتعلقة بالخصوصية مشكلة بالنسبة إلى بايوبنك، لأن الجميع وافقوا عليها. ولن يزيد ذلك من عبء العمل على الأطباء. فهل يكرهون المخاطرة أكثر من اللازم؟ أم أنهم يخشون أن يؤدي عرض سجلاتهم إلى مساعدة المركز على التدقيق في أدائهم؟
تهتم الجمعية الطبية البريطانية بأمور أخرى، بعد أن نظمت هذا الأسبوع إضرابا مشتركا غير مسبوق حول أجور العمل للأطباء المبتدئين واستشاريي المستشفيات. وهذا من شأنه أن يلحق مزيدا من الضرر بالمرضى، الذين لا يمكن أن يأمل سوى عدد قليل منهم في الانضمام إلى الاستشاريين ممن هم في أعلى 2 في المائة من أصحاب الدخل.
لقد بدأت أتساءل إلى جانب من يقفون حقا؟

بريطانيا المتقدمة في علوم الحياة .. تألق بدأ بالأفول

أضف تعليق