الليبرالية والطريق المسدود

تحدثنا في رسالة الأسبوع الماضي عن شق مهم من الليبرالية الذي يتكئ على صون ما لدى الناس من قيم وثقافات وحرية الكلام والنشر وقبول قيم مختلفة عن تلك التي لدينا.
وارتبط الحكم الديمقراطي الذي بموجبه ينتخب الناس ممثليهم وحكامهم لفترات محددة من الزمن بالليبرالية. وكان التصور لدى المفكرين والفلاسفة الذين قاموا بتنظير الليبرالية كمفهوم وممارسة أن ليس في الإمكان قيام نظام ديمقراطي غير ليبرالي.
وأخذت الدول الديمقراطية الليبرالية ـ الدول الغربية بصورة عامة ـ تمارس المفاهيم الليبرالية والتي تأتي حرية الفرد واختياره في مقدمتها ليس فقط ضمن نطاق حدودها، بل صارت جزءا من مواقفها السياسية وحتى الاقتصادية صوب المجتمعات والدول.
نأخذ مثالا واحدا وهو النظرة إلى العلاقات الجنسية التي أخذت مديات لم تكن في الحسبان قبل عقد أو عقدين. اليوم قد تحاسب وتودع السجن في بعض الدول الليبرالية الديمقراطية الغربية لو قمت بحرق علم المثليين، بيد أنك لو أحرقت كتابا يراه نحو ملياري بشر مقدسا ومنزلا من السماء فهذا جزء من الحرية الليبرالية.
والمد الليبرالي في هذا الخصوص وفي مضامير اجتماعية أخرى تعارض القيم التقليدية اقتحم أروقة مؤسسات ثقافية، كان ينظر إليها حتى إلى زمن قريب حامية الأخلاق العامة التي تربت المجتمعات الغربية عليها، واستقت أسسها من التعاليم المسيحية.
هناك تصادم حضاري لا بل تغريب ربما لم يشهده التاريخ حتى في أحلك العهود والتي في وجهة نظري تتمثل في الحروب الصليبية، التي وقعت بسبب خلاف في النظرة إلى القيم بين الشرق والغرب. أقول هذا، لأن ضحايا الحروب الصليبية التي شنها الغرب، وحسب مؤرخين معاصرين، كانوا أيضا من المسيحيين المشرقيين شأنهم شأن أشقائهم المسلمين.
لا أظن أن هناك حربا بمفهوم الحروب الصليبية بين الشرق والغرب في زمننا هذا، بيد أن بوادر حرب أساسها الصراع على القيم الثقافية والدينية بادية للعيان.
إن كانت المجتمعات الغربية قد وقعت في قبضة الليبرالية، فهذا شأن لا يحتاج إلى كثير من البراهين. ذكرنا الهالة شبه المقدسة التي تمنحها بعض المجتمعات الغربية لعلم المثليين.
ولكن أن تنحني المؤسسات الدينية الغربية أمام المد الليبرالي الغربي الجارف، فهذا لعمري شأن خطير لأن القيم والتقاليد والأخلاق الإنسانية التي نشأ الناس عليها بدأت تتساقط واحدا تلو الآخر.
من كان يتصور أن مؤسسات كنسية مسيحية مؤثرة سترأسها امرأة مثلية الجنس ومتزوجة شرعيا من امرأة أخرى؟ هذا هو الواقع في بعض المجتمعات الغربية الليبرالية.
وحتى المؤسسات الكنسية المسيحية التقليدية، مثل مؤسسة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، أكبر كنيسة في العالم، في حيرة من أمرها لأن إن عاكست التيار لوقعت تحت طائلة القانون، وإن قبلت بالأمر فقدت بوصلتها الأخلاقية التي تستند فيها على الكتب التي تراها مقدسة.
هناك صراع بين القيم، ويخطئ من يقول إن الصراع هذا محصور بين الشرق والغرب. في الغرب هناك صراع على قدم وساق حول القيم الثقافية، وفي الشرق، رغم كون المجتمعات الشرقية مجتمعات محافظة بصورة عامة، لا يمكن إخفاء شعلة الصراع بغربال.
في الغرب صرنا نلحظ ظهور دول ومجتمعات ديمقراطية غير ليبرالية والمجر خير مثال. والمثال الآخر هو بروز الأحزاب اليمينية، التي رغم شوفينة بعضها، تعارض كثيرا من القيم والمبادئ الليبرالية وتعمل بجد لتقويضها.
الهند مثال آخر لنجاح الديمقراطية في غياب تام تقريبا للمفاهيم والممارسات الليبرالية الغربية. إن نجاح الديمقراطية في الهند أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وفي طريقها إلى تبوء مركز دولة عظمى، يرسل إشارة أن أي مجتمع في إمكانه تحقيق الديمقراطية وعدم تبني المفاهيم والمبادئ الليبرالية الغربية.
في إسرائيل، التي يقال إنها الدولة الديمقراطية الليبرالية الوحيدة في الشرق الأوسط، هناك حاليا صراع خطير بعض مسبباته وربما أغلب مسبباته تعود إلى الصدام بين الديمقراطية والليبرالية. الليبراليون العلمانيون "الاشكنازي" في إسرائيل في خلاف قد يكون وجوديا مع التيار الديمقراطي غير الليبرالي، وهو الشرقي المتزمت بالقيم اليهودية "السفراديم". والتعديلات القضائية، في رأي المتواضع، هي بمنزلة القش وظهر البعير.
لذا لم أستغرب البتة أن يغير العالم السياسي الأمريكي الشهير فرانسيس فوكوياما موقفه من نظريته الشهيرة "نهاية التاريخ"، بمعنى أنه سينتهي كل شيء وستسود الديمقراطية الليبرالية العالم.
ففي آخر لقاء قرأته له في الأسبوع الفائت بدا وكأنه يتراجع عن نظريته هذه التي هزت عرش العلوم السياسية وحتى النظرة إلى الحكم في الدول الغربية.
وهكذا، يبدو أن هذه النظرية، التي قلبت الأسس التي كان العالم يستند إليها في السياسة وحتى الاقتصاد، في طريقها إلى الانهيار بعد نحو أربعة عقود من تاريخ نشرها، أي في وقت قصير بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.
في المقابلة، كان فوكوياما يتحدث لا بل يتوقع انحسار الليبرالية أمام: أولا، التيار الديمقراطي غير الليبرالي في العالم، وثانيا، أمام دول قوية وعظمى لا تعترف أساسا بالديمقراطية الغربية وأسسها الليبرالية وفي مقدمتها الصين وأغلب الدول في العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي