في الإطار الأوسع .. نمو الأجور ليس وحده الملام
يتم تأطير الزيادات المفرطة في الأجور بشكل متزايد على أنها السبب الوحيد لمشكلة التضخم في المملكة المتحدة والتي تسبب صعوبات في الرهون العقارية وتجبر العائلات على اتخاذ خيارات صعبة مع قوتها الشرائية المتقلصة.
في حين اكتسبت هذه الرسالة زخما في الآونة الأخيرة بسبب أحدث بيانات الأجور وتحذيرات التضخم من جانب وزير المالية البريطاني وبنك إنجلترا، إلا أنها متحيزة ويمكن أن تضلل بسهولة. فهي تبالغ في تبسيط مشكلة التضخم واستجابة السياسات المناسبة. كما تزيد من احتمالية خطر الركود التضخمي الاقتصادي، ما يفاقم معضلة التضخم وأسعار الفائدة الحالية أكثر.
إن المرحلة الحالية من التضخم المرتفع في المملكة المتحدة تشبه تجربة الدول المتقدمة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. كونه مدفوعا في البداية بعدة عوامل "الطاقة والغذاء في هذه الحالة"، فإنه يؤدي إلى زيادات في الأسعار على نطاق أوسع في قطاع البضائع بأكمله قبل تأثيره في الخدمات. وعليه فإن التضخم لا ينخفض بسرعة حتى بعد انحسار الصدمة الأولية. في غضون ذلك، العملية نفسها تغذي نمو الأجور ويغذيها، وهو أقل تأثرا بارتفاع أسعار الفائدة.
وفقا لأحدث البيانات، بلغ نمو الأجور السنوي لفترة الثلاثة أشهر حتى أيار (مايو) 7.3 في المائة، متجاوزا توقعات الإجماع بنموه 7 في المائة. ارتفعت أجور القطاع الخاص 7.7 في المائة، متجاوزة ارتفاعها 5.8 في المائة في القطاع العام. رفع إصدار البيانات أسعار الفائدة في السوق، في حين رفع مقدمو الرهون العقارية، استجابة للزيادات السابقة في الأسعار، متوسط معدل الفائدة على الرهون العقارية لأجل عامين إلى أكثر من 6.6 في المائة، وهو مستوى لم نشهده منذ 15 عاما.
جاءت البيانات بعد دعوات لتقييد الأجور دعا إليها كل من وزير الخزانة جيريمي هانت ومحافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي في اجتماع مانشن هاوس لممثلين رفيعي المستوى من صناعة التمويل وصناعات أخرى. كما أبقى بيلي الباب مفتوحا أمام رفع سعر الفائدة 0.5 نقطة مئوية مرة ثانية على التوالي في الاجتماع المقبل للجنة السياسة النقدية في البنك.
يركز نقاش التضخم في المملكة المتحدة الآن تركيزا مفرطا على تضخم مدفوع بالأجور، حيث يمرر مزودو البضائع والخدمات تكاليف الأجور العالية ليتحملها المستهلكون. وهذا مؤسف لثلاثة أسباب.
أولا، لأنه يحدث في وقت تآكلت فيه الأجور الحقيقية كثيرا بالفعل بسبب تضخم فاقت ذروته 10 في المائة. حتى آخر زيادة في الأجور، رغم ارتفاعها من حيث القيمة الاسمية، قصرت عن مواكبة مستوى تضخم أسعار المستهلكين في أيار (مايو) البالغ 8.7 في المائة.
ثانيا، إن محركات التضخم أكثر تعقيدا وتنوعا من الأجور وحدها. فهي تشمل الاستجابة الأولية الجبانة للسياسة لما وصفته معظم البنوك المركزية خطأ بأنه تضخم "مؤقت"، وسلاسل توريد دولية معطلة، وسوق عمل ضيقة، وإعطاء بعض الشركات الأولوية للحفاظ على هوامش الربح.
ثالثا، التركيز المفرط على تقييد الأجور كونه الأداة الرئيسة لخفض التضخم، يزيد من احتمالية حدوث ركود. إذ سيقوض طلب الأسر في وقت تضع فيه تكاليف الرهون العقارية المرتفعة عبئا كبيرا على الأسر بالفعل. كما أن النشاط الاقتصادي، وتوفير الخدمات العامة الأساسية، عرضة لإضراب أيضا.
ربما يكون النظر إلى هذه المشكلات على أنها مشكلات تنفرد بها بريطانيا أمرا مغريا بما أن التضخم فيها يتجاوز ضعف مستوى الولايات المتحدة وأعلى منه في منطقة اليورو، وأن الأجور تتزايد بوتيرة أسرع. يتضخم هذا الاتجاه بسبب ميل الدولة التاريخي نحو العمل الصناعي والمقاومة المستعصية لتآكل الأجور الحقيقية، وإن كان هذا يعود إلى عقود ماضية.
لكن، نظرا إلى قوة قطاع الخدمات في جميع المناطق الاقتصادية الثلاث، هناك خطر كبير من أن الولايات المتحدة ومنطقة اليورو قد تتبنيان في النهاية تأطيرا مشابها لمشكلة التضخم وحلها. من شأن هذا أن يعوق النمو العالمي أكثر، الذي عرقله بالفعل الانتعاش الاقتصادي المخيب للآمال في الصين.
يتعين على المملكة المتحدة أن تقود الآخرين في تطبيق استجابة سياسية أكثر شمولا. ينبغي أن يتناسب هذا النهج مع ارتفاع أسعار الفائدة وقيود الأجور بإجراءات هادفة لتنشيط جانب العرض. عليها أن تستفيد من التحول الضروري إلى الطاقة النظيفة، وأن تتبنى الابتكارات التكنولوجية المثيرة، وأن تعيد تقييم أفضل السبل لأخذ التضخم إلى مستوى منخفض ومستقر.
لن يقلل نهج كهذا من أخطار حدوث ركود تضخمي فحسب، بل سيعزز أيضا آفاق النمو المستدام للإنتاجية ويوسع إمكانات النمو في الدولة. سيوفر فرصة أفضل لمواجهة التحديات طويلة الأجل التي يفرضها تغير المناخ والديون المرتفعة والنمو المنخفض والتفاوت الشاسع في الدخل والثروة والفرص.
*رئيس كلية كوينز في جامعة كامبريدج، ومستشار لأليانز وجراميرسي