المقهى .. فضاء تنوير الإنسان انقلب مكانا لاستغلاله
يصعب التأريخ بدقة لبداية ظهور المقاهي في العالم، فأصول "مصنع الأخبار" وهو الاسم القديم للمقهى الذي يتشارك كمكان - في معظم لغات العالم - مع الاسم نفسه للمشروب "القهوة"، يرجح أن تكون، وفق أغلب المؤرخين، شرقية. فحاجة الناس إلى أماكن مفتوحة للقاء والتواصل والترفيه والمسامرة وتزجية الوقت، باتت في تزايد مع تعقد نمط الحياة في المدن ابتداء من القرن الـ16.
وفرضت الحاجة إلى فضاء عام محايد لمناقشة القضايا العامة ومتابعة شؤون البلاد والعباد بكل حرية، بعيدا عن القيود التي تحكم المساجد كفضاء عام يتيح فرص التقابل وتبادل الأحاديث بين الناس خارج المنزل، لكنه على الرغم من ذلك يظل فضاء عاما محدودا للغاية، عكس المقهى حيث الكلام مباح في كل الموضوعات بلا خطوط حمراء، بدءا من تفاصيل وجزئيات المعيش اليومي للأفراد، وانتهاء بالأفكار والقضايا والأسئلة الكبرى عن الحياة والوجود والكون، مرورا بمسائل السياسة ومشكلات الاقتصاد وشؤون الثقافة...
مشكلة محدودية الفضاء العام، المقتصر على المساجد فقط، سبب وجيه لانبثاق فكر المقهى في الشرق، التي ملأت فراغا كبيرا لا وجود له في بلاد الغرب، حيث نهضت الحانات بهذه الوظيفة قبل المقهى بقرون، وإن كانت الهلوسات والسطحية الطابع الغالب في أحاديث مرتادي الحانات، نقيض النقاشات الثرية والعميقة في المقاهي بين عقول يقظة، يزيدها مشروب القهوة، المستخرج من حبات البن، انتعاشا وتوجها وإشراقا.
سرعان ما انتقل المقهى من الشرق نحو الغرب، بانتشار المقاهي في ربوع أوروبا، واقترنت منذ بواكيرها بقضايا الثقافة والفكر. فقد كانت الفكرة أشبه بثورة هادئة داخل المجتمعات، فكتب مارك بندرجاست، مؤلف كتاب «تاريخ القهوة وكيف غيرت عالمنا»، "لم يكن هنالك أماكن كثيرة يستطيع فيها الناس، من جميع طبقات المجتمع، اللقاء والحديث. ومن ثم، بدت المقاهي أماكن غريبة لم ير أحد لها مثيلا من قبل.. ففي واقع الأمر، يتحدث الناس عن السياسة بلا شك في المقاهي".
شكل ظهور المقهى حلا لمشكلة التفاوت داخل المجتمعات، فداخل هذا المكان بمقدور أي فرد، مهما كان وضعه الاجتماعي وانتماؤه الطبقي، أن يحتسي القهوة بكل حرية. سرعان ما تجاوز الفضاء غرضه البسيط المحدد في مجرد مكان مخصص لتناول مشروب ساحر، نحو أغراض أخرى كانت السبب وراء منعطفات كبرى في تاريخ الإنسانية. تحول نوعي دفع كثيرا من البريطانيين إلى وصف المقاهي بـ"الجامعات الرخيصة"، فنظير مبلغ زهيد من المال، يستطيع الزائر/ الزبون تناول فنجان قهوة، مع ما يرافقه من استمتاع بنقاشات ثرية حول كل شيء في العالم.
تدريجيا، بدأت المقاهي تصنع موقعها كأحد المرافق العامة للمدينة، فهي بمنزلة "برلمان الشعب" حيث لا يبقى الكلام مباحا لشهرزاد رغم صياح الديك، فقصده الفلاسفة والأدباء والمثقفون... وشكل - في وقت لاحق - أول فضاءات تعرف الجمهور على الصحافة، فاشتهرت بداية بجلسات قراءة الأخبار في المقاهي، ثم تطورت إلى وضع نسخ من الصحف اليومية رهن إشارة الزبائن للقراءة.
اهتمام بالسياسة ولد مخاوف لدى رجال السياسة من المقهى، فأصدر السلطان العثماني مراد الرابع، في 1633، مرسوما يجرم استهلاك القهوة، ويعاقب عليها. وفي أواخر 1675، قرر ملك بريطانيا تشارلز الثاني حظر جميع المقاهي في لندن، بعدما اشتهرت بالخوض في السياسة وشؤون الدولة، وكانت سببا وراء اندلاع الحرب الأهلية التي قطع فيها رأس والده تشارلز الأول. لكن القرار سقط، بانتصار المقاهي في مواجهة الدولة، بعد 11 يوما فقط من صدوره.
بعيدا عن الأدوار الطلائعية للمقهى في الفكر والسياسية، وإسهامه في الثورة والتنوير، وتشكيل معالم أهم الحركات الأدبية والثقافية في التاريخ الحديث، تحولت في عصرنا إلى منتج رأسمالي، تحكمه قوانين العرض والطلب. هكذا دخلت المقاهي في سباق محموم ومنافسة شرسة للاستجابة لمبدأ "ما يطلبه الجمهور"، فالزبون هو الملك حسب تعبير رجل الأعمال الأمريكي سام وولتون.
في الآونة الأخيرة، أمعن أصحاب المقاهي في "الإبداع" بظهور مقاه تقدم خدمات للزبائن بعضها أقرب ما يكون إلى الجنون منها لشيء آخر، بدءا من تجربة الخوف الممزوجة بالغرابة، في منطقة دي مار في مدينة جيرونا الإسبانية، حيث يقدم "مقهى الكوارث" مشروباته على إيقاع زلزال بقوة 7،8 على مقياس ريختر داخل المطعم، للزبائن على حين غرة، في تجربة غريبة صعبة التحقق على أرض الواقع.
يساعدك مقهى السجن، في مدينة يالوفا في شمال غرب تركيا، بحسب صاحبه على "إيجاد بيئة يمكن أن يشعر فيها الشخص بقيمة الحرية خارج السجن"، حيث يتيح للزبون فرصة عيش تجربة السجين بمختلف تفاصيلها، وذلك بهدف الشعور بأهمية الحرية. فعوالم المقهى تشعر الزائر بأجواء السجن، بوجود عمال بزي حراس السجن وآخرين بزي السجناء، وتقدم الطلبات في أماكن بأبواب حديدية وقاعات أشبه ما تكون بالزنزانات.
وعلى غرار مقهى إيثا، في منتجع وسبا هيلتون في جزيرة رانجالي، في المالديف الذي يتيح لزواره تجربة قضاء أوقات في عمق خمسة أمتار تحت سطح البحر، تقدم مقاهي الجليد الخمسة المنتشرة في العالم "دبي ولندن وميلان وستوكهولم وطوكيو" فرصة العيش في أجواء بدرجة برودة تصل إلى ست درجات تحت الصفر، بتكلفة دخول حددت بـ16 دولارا، بما في ذلك الملابس اللازم ارتداؤه داخل المقهى، دون أن تزيد مدة البقاء داخله 45 دقيقة حفاظا على صحة وسلامة الزبائن.
خدمات هذه المقاهي تبقى قابلة للعقلنة، بشكل من الأشكال، لكونها تمنح الزبون أو بالأحرى الزائر لأنها سياحة وترفيه، مغامرة وإثارة وتشويق. لكن حين يكون ذلك على حساب أحاسيس ومشاعر الآخرين، كما هو حال "مقهى الحزن" في شرق الصين، الذي يفتح أبوابه لكل من يرغب في البكاء أو يعاني حزنا أو اكتئابا شديدا. هكذا يجد الزبون نفسه مع أمثاله فينخرط الجميع في موجات بكاء جماعية، يحفزها أكثر تقديم الندل البصل والفلفل الأحمر لمزيد من البكاء، فضلا عن منح زيت النعناع لتهدئة الأعصاب مع ارتفاع حدة البكاء، يثار السؤال مجددا حول أخلاق الرأسمالية؟!
واتضحت بشاعة الاستغلال أكثر فيما يعرف باسم مقهى "خدمات المؤانسة" في الصين، حيث يقدم الشباب للفتيات العوانس خدمة الجلوس معهن على الطاولة والاستمتاع باهتمام إلى همومهن ومشكلاتهن، بمقابل قد يصل إلى 60 دولارا "400 يوان" للجلسة الواحدة. وتطور الأمر بابتكار خدمة "صديق ليوم واحد" تمكن الفتاة من حجز مساعد شخصي لمرافقتها في رحلات تسوق.
يذكر أن خدمات هذه المقاهي قانونية، وقد ظهرت لأول مرة في مدينة شنغهاي، عام 2021، ثم امتدت إلى مدن أخرى مثل: بكين وتيانجين وشينزن... تؤطرها جملة من الشروط من قبيل حرمان الفتيات أقل من 27 عاما من ولوج هذه الأماكن، فلا تزال أمامهن فرصة للعثور على شركاء حياتهن بعيدا عن هذه المقاهي.
يرفض أصحاب المقاهي الطابع التسليعي للفكرة، عادين أن ارتفاع معدل العنوسة الذي وصل إلى 77 في المائة، في رقم قياسي منذ تأسيس الجمهورية في 1945، دفعهم إلى تخصيص مقاه لمؤازرة الإناث، ومنحهن الشعور بالذات من خلال توفير خدمات تليق بهن. دفع أريد به التغطية على الاستغلال الرأسمالي الفج للأزمات الإنسانية، فعن أي مؤازرة نتحدث حين يشارك الطرفان في جلسة تمثيل بلا هدف، تبقى دقائقها معدودة حسب المبلغ المدفوع.
إنها رحلة المقاهي من منارات للحوار والسجال تؤثر في الفضاء العام في الشرق والغرب على حد سواء، مساهمة منها في التأسيس لأهم مسارات التاريخ الإنساني في السياسة والثقافة والأدب والفن إلى أدوات طيعة في يد الرأسمالية، تقلبها ذات اليمين وذات الشمال، بحثا عن كل السبل "المباريات الرياضية، المشاعر الإنسانية، الحفلات الموسيقية..." المؤدية إلى جيوب الزبائن تحصيلا للعوائد وجنيا للأرباح.