مدينة بلا أطفال .. مشهد تثيره أزمة تكلفة المعيشة
تمشي جو رايلي مسرعة - بخطا سريعة لمديرة مدرسة مشغولة. يتردد صدى خطا حذائها ذي الكعب القصير في ممرات مدرستها الفارغة. عند وصولها إلى مكتبها، مع أكوام من الأوراق غير المنظمة، والمزينة ببطاقات بريدية مستوحاة من أغلفة الكتب، وصور التلاميذ وعائلاتهم، يلين سلوك رايلي عندما تعترف بضغوط الإشراف والحسرة على المدرسة الابتدائية في هاكني في شرق لندن التي من المتوقع أن تغلق أبوابها في الصيف المقبل.
قالت: "لقد قلت إن الأمر مثل الفجيعة، لكن في الواقع (...) إنه يشبه إلى حد كبير مرضا عضالا. ففي كل مرة يغادر فيها أي طفل، يكون ذلك عرضا آخر (...) وفي الواقع، لا يوجد علاج والمسألة مسألة وقت فقط. لقد كانت هناك موجات من مشاعر الغضب، وموجات من الحزن الحقيقي (...) إننا مجتمع متماسك (...) والحب هو أحد قيمنا الأساسية".
إن مدرسة راندال كريمر هي واحدة من عدة مدارس ابتدائية تم التخطيط لإغلاقها ودمجها في وسط لندن وذلك بسبب معدلات المواليد المنخفضة، ورحيل العائلات عن المدينة بسبب ارتفاع تكلفة رعاية الأطفال، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإعادة تقييم الآباء لحياتهم أثناء الجائحة. تقول رايلي إن العامل الأكبر لذلك هو أن "تكلفة الإسكان أصبحت الآن غير ميسورة". وهذا ما يدعوه فيليب جلانفيل، عمدة هاكني، "الأزمة الحادة في قدرة تحمل التكاليف". ويقول إن الإبقاء على الأطفال في المنطقة يتطلب تدخلا من الحكومة المركزية، لتوفير "استثمار مفيد في الإسكان الاجتماعي، ومواءمة دعم الرعاية الاجتماعية مع التكلفة الحقيقية للإسكان ووضع ضوابط على الإيجارات المرتفعة للغاية".
هاكني ليست المنطقة الوحيدة في العاصمة التي تخسر أطفالها. حيث تتوقع مجالس البلديات في لندن، والتي تمثل 32 منطقة إدارية ومؤسسة حي المال في لندن، انخفاض 7.6 في المائة في أعداد التلاميذ عبر المدينة بين 2022 إلى 2023 و2026 إلى2027، أي ما يعادل نحو 243 فصلا دراسيا.
إن مستقبلا تتضاءل فيه أعداد الأطفال هو أحد الأمور التي تتصارع معه عدة مدن، بما فيها سان فرانسيسكو، وسياتل وواشنطن العاصمة. وفي هونج كونج، لكل شخص بالغ يزيد عمره على 65 عاما، يوجد، لنقلها بصراحة، 0.7 طفل، وفي طوكيو فإن العدد أقل حتى عند (0.5).
حتى قبل الجائحة، كتب جويل كوتكين، مؤلف كتاب المدينة البشرية قبل عقد عن احتمالية مدينة بلا أطفال، قائلا إن المدن الأمريكية "شرعت في تجربة لتخليص مدننا من الأطفال (...) حيث إن "طبقة المبدعين" البراقة والمعتدة بنفسها - وهي مجموعة ديموغرافية لا تشمل المهنيين العزاب فحسب، بل أيضا الأزواج الأثرياء بلا أطفال، والآباء ذوي الأطفال البالغين، والطلاب الجامعيين - تشغل كثيرا من المساحة الحضرية التي كانت ذات يوم تعج بالعائلات. إن مدننا الأمريكية العظيمة، من نيويورك وشيكاغو إلى لوس أنجلوس وسياتل، تتطور إلى ملاعب للأثرياء بشكل متزايد".
يخشى جون تابوش، كبير الباحثين في مؤسسة سنتر أوف لندن الفكرية، من أن تصبح العاصمة "مدينة أكثر انعزالا، وأقل حيوية من الناحية الثقافية، وأن تصبح مدينة أقل إنتاجية في المدى الطويل. وأسعار المنازل والإيجارات المرتفعة تتسبب في انتقال السكان الفقراء ومتوسطي الدخل إلى الخارج ومغادرة المدينة، من المرجح أن تؤدي إلى زيادة الفصل العنصري، وإلحاق الضرر بثقافة المدينة المشتركة التي صنعت أكثر أنواع الموسيقى والفن والأفلام شعبية من أي مكان في العالم".
كتب الخبير الحضري ريتشارد فلوريدا في 2019 أن عدم الإنجاب "يعكس كيفية تخصص أحياء معينة في أنواع محددة من السكان حسب دخلهم والمرحلة التي يمرون بها في الحياة". ففي لندن، يتوزع الأطفال بشكل غير متساو، نظرا إلى انتقال العائلات إلى الأطراف الخارجية للمدينة. وتظهر البيانات من مؤسسة سنتر أوف لندن أنه في الأعوام الـ20 حتى 2021، كان هناك انخفاض في عدد الأسر التي تعيل طفلا واحدا على الأقل في أحياء منطقة هاكني الداخلية في لندن "9 في المائة"، وإيسلينغتون "7 في المائة"، ولامبيث "10 في المائة" وساثورك "11 في المائة". أما بعيدا إلى الشرق، في باركينغ وداغينهام، كانت هناك زيادة 34 في المائة خلال الفترة نفسها، مدفوعة بأسعار الأراضي المنخفضة والبرنامج الهائل لبناء المساكن.
إن هذا الفصل، حيث تجبر العائلات الفقيرة على النزوح إلى أبعد المناطق في المدينة، أو في كثير من الحالات، خارج المدينة تماما، كما يقول تابوش "يميل إلى كونه تسلسلا هرميا للثروة والطبقة الاجتماعية أكثر من فصل ذي حراك اجتماعي".
يقول بول سويني، مدير السياسات والأبحاث في سنتر أوف سيتيز، وهي مؤسسة فكرية أخرى، إن احتمالية كون الحي مثاليا لكل فئة عمرية هو حقيقة تحد ضخم. ويضيف، "إن بعض الأشياء عبارة عن مقايضات مباشرة: كحجم العقار أو الضوضاء. من الصعب توفير وسائل الراحة والمدارس الممولة من القطاع العام المشهورة عالميا".
إن وجود الأطفال في أحد الأحياء يشكل توفير المرافق العامة والخاصة المحلية. حيث يشير إنريكو موريتي، أستاذ الاقتصاد المتخصص في الاقتصاد الحضري في جامعة كاليفورنيا، في بيركلي، إلى أن "طلب تحسين جودة المدارس يتناسب طرديا مع عدد العائلات التي لديها أطفال في منطقة ما، بينما الطلب على الترفيه - كالمطاعم والمقاهي والمتاحف - يتناسب عكسيا مع أعداد العائلات المحلية التي لديها أطفال".
لكن وجود الأطفال في المدينة قد يفيد جميع البالغين، وليس الآباء فقط. حيث يصف جيل بينالوسا المتخصص في المجال الحضري، الأطفال بأنهم "مخلوقات دالة" - فتصميم المدن لتناسب الأطفال يعني أنها تناسب الجميع أيضا. وتوسعت ألكسندرا لانغ، مؤلفة كتاب تصميم الطفولة، في هذه النقطة قائلة إنه إذا صممت مدنا لتكون آمنة للبالغين، فستكون "مصممة عادة للشباب الأصحاء - الذين يمكنهم عبور الشارع بسرعة (...) والذين لا يحتاجون إلى الراحة بعد سير مسافة عشرة مجمعات".
أضافت، "لكنهم ليسوا الفئة الأكبر من الناس. إن تغيير منظورك (...) إلى منظور طفل يبلغ من العمر ثلاثة أعوام، أو عشرة أعوام، أو 16 عاما - فضلا عن عمر 80 عاما - يوسع بشكل جذري ما يعنيه تصميم مدينة جيدة ويسمح لمجموعة أكثر تنوعا من السكان بالعيش والعمل واللعب فيها".
يتفق مع ذلك جيروم فروست، رئيس منطقة المملكة المتحدة والهند والشرق الأوسط وإفريقيا في شركة أروب الهندسية. حيث يقول إن وجود الأطفال يشجع على تصميم بيئة حضرية "آمنة، وتدعم المشاة. إذا انتقلت إلى الضواحي، فستذهب إلى المتنزه بالسيارة، أو أنك ستقودها من بيئة مغلقة إلى أخرى". ويمكن للأطفال أيضا تحفيز الابتكار. إذ يقول فروست، "هناك لا منطقية حول الأطفال"، مضيفا أنهم "أكثر قبولا للتغيير".
في منطقة كينغز كروس في وسط لندن، فإن تسلق الأطفال في الملاعب والجري عبر النوافير قد أفاد الشركات، كما تقول أنثيا هاريس، المديرة الإدارية للأصول في شركة آرغينت لتطوير العقارات الكبرى في المنطقة التي تضم شركات سوني ميوزيك وجوجل، إضافة إلى المحال التجارية والمطاعم. وتقول، "تستمتع الشركات بالحيوية التي يجلبها الأطفال إلى أي مكان".
تقول هاريس إن المناطق المميزة في لندن المكتظة بالمكاتب، أو في الأغلب المسارح والمطاعم، "يمكن أن تبدو مؤسسية، ورتيبة جدا، وصارمة جدا". كما يمكن لها أن تبدو فارغة للغاية عندما يعود العمال إلى منازلهم. فحي المال في لندن، المعروف تاريخيا كموطن للبنوك وشركات المحاماة وليس الأطفال، كان حريصا في الأعوام الأخيرة على جذب الزوار خارج ساعات العمل.
يجادل تيم جيل، وهو مؤلف ومدافع عن قضايا لعب أطفال، أن الطاقة الفوضوية تضفي طابعا إنسانيا. ويقول إن الأطفال "يجسدون درجة من التسامح والود، وهي فكرة أن الحياة تدور حول مسائل أكثر من العمل والمال ووطأة البالغين الساخطين. إن الأطفال مزعجون بعض الشيء. فهم لا يعرفون القواعد، لكن هذا جزء يجعل المدينة نابضة بالحياة وماتعة". ويقول جيل إنك إذا استبعدت الأطفال فسينتهي بك الأمر بوضع يتم فيه عزل الأجيال عن بعضهم ولن يخرجوا من تجربتهم اليومية، إلا إذا دفع ثمن ذلك وتم تنظيمه.
منذ أكثر من 20 عاما، وصف عالما الاجتماع الأمريكيان ريتشارد لويد وتيري نيكولز كلارك المدن بأنها "آلات ترفيه" للأثرياء الذين ليست لديهم أطفال. واليوم، يشعر لويد بالقلق من أن المدن معرضة لخطر "الاقتصار على فئة معينة" - إذا لم تعد العائلات قادرة على تحمل تكلفة العيش في المدينة، فلن يكون ذلك ممكنا للفنانين الذين يوجدون بعضا من جاذبيتها الثقافية. ويقول، "إن الأطفال مصدر للتواصل - فمع تقدمك في السن وعندما لا تصبح المقاهي مثيرة للاهتمام، فسينهار هذا الارتباط المجتمعي".
يعد الأطفال أيضا علامة على صحة الحي في المدى الطويل. ففي هاكني، يرى غلانفيل أنهم السبيل الوحيد لبناء "أحياء مستدامة ملائمة للمستقبل". وتقول لانغ، التي تقيم في الولايات المتحدة، إن المناطق المليئة "بالعابرين - (الذين يعيشون فيها) لمدة خمسة أعوام ثم يرحلون - لا تحصل على القدر نفسه من العائد من مواطنيها. إن تصميم المدن لتناسب العائلات يسمح للمدن أيضا بالإبقاء على هؤلاء الرجال البالغين من العمر 30 عاما بعد زواجهم وإنجابهم الأطفال. وهذا يعني أنهم يرتقون إلى شقق أكبر، ويستخدمون طرقا أقصر للتنقل، ويدفعون الضرائب في المدينة، ويستخدمون المكتبة العامة، ويبنون المجتمع عبر التعليم".
تقول لانغ إن إنجاب الأطفال يعني أن يبدأ الناس بالاهتمام والبدء بالمساهمة في حيهم. "هؤلاء هم الأشخاص الذين يناضلون من أجل ممرات آمنة للدراجات الهوائية، ويترشحون لمجلس إدارة المدرسة، ويخططون لإقامة حفلات للمجمع السكني". كما أن ذلك يؤثر في الخدمات المحلية. حيث يقول تابوش من مؤسسة سنتر أوف لندن: "إن أعدادا متزايدة من شباب لندن الذين أجبروا على مغادرة المدينة بسبب عدم تمكنهم من امتلاك المنازل ستؤثر أيضا في ظروف التوظيف وحالة الخدمات العامة". ويضيف أن العاصمة لديها أعلى معدل شغور لعمال خدمة الصحة الوطنية من أي مكان في المملكة المتحدة، وهذا يرجع إلى حد كبير إلى النقص في عدد الممرضين.
في وسط لندن، يبلغ الأجر المبدئي لرئيس الممرضين 32،466 جنيها استرلينيا، ما يعني أنه سيتعين عليهم إنفاق أكثر من 66 في المائة من إجمالي أجورهم لتغطية متوسط الإيجارات المحلية، وفقا لحسابات تابوش. إن هذه المشكلات ليس أمامها إلا أن تتفاقم مع تقدم سكان لندن في العمر.
وماذا عن الأطفال أنفسهم؟ لقد التقيت أخيرا بصديقتي وابنها المراهق الذي غادر لندن، حيث استبدل منزلا من ثلاث غرف نوم مع حديقة بشقة تحتوي على غرفتي نوم. وقد صرح ابنها أن صخب المدينة ومزيجها من الأنشطة كانا ساحرين، وهو وصف لم ينطبق أبدا على رحلته بالدراجة عبر الحقول والأحراش من منزله خارج المدينة.
رأت جين جاكوبس، الخبيرة الحضرية الأمريكية الراحلة، أن الأرصفة أكثر أمانا للأطفال من الملاعب، لأن وجود البالغين سيهذبهم أو يدفعهم إلى السلوك الجيد. ويقول جيل إن الأطفال لديهم "حب للتجربة والحياة، ويريدون أن يفهموا كيفية عمل الأماكن (...) وتعلم فن الحياة الحضرية".
تتفق لانغ مع ذلك. وتقول، "إنهم يرون أثناء ركوبهم عربة الأطفال أو سيرهم على الأقدام أكثر بكثير مما يرونه أثناء ركوبهم السيارة. من الناحية الاجتماعية، هناك فوائد هائلة من تكوين صداقات في أماكن اللعب، وتمكنهم بعد ذلك، من المشي إلى منازل الأصدقاء بمفردهم، وتناول المسليات، وركوب مترو الإنفاق".
أضافت، "يمكن تعويض كثير من مشكلات الطفولة المعاصرة عبر قدر أكبر من الاستقلال وإمكانية الوصول إلى مزيد من الأشخاص والأنشطة المتنوعة - وهي أشياء ممكنة أكثر في الحياة الحضرية".
في مدرسة راندال كريمر، تشعر رايلي بالحزن من احتمال أن يفوت طلابها قربهم من وسط لندن. وتقول، "يمكنك الخروج من باب منزلك (...) ورؤية صالات العرض وشركات التكنولوجيا الصغيرة أمامك، وهناك كثير من الأشياء التي يمكن أن تمنحك نوعا من الإلهام الذي يمكنك الشعور معه أنه سيكون هناك نوع من المستقبل". رايلي قلقة بشأن القدرة الاجتماعية على التنقل إذا اضطر الأطفال إلى مغادرة المنطقة. "إذا لم يكونوا يعيشون هنا، فلن يتمكنوا من رؤية الإمكانات المتاحة في لندن".
تتوقف رايلي عن الكلام، وللحظة، يملأ الغرفة صوت صراخ وضحك من الأطفال وهم يقفزون ويلعبون كرة القدم في الخارج. تستجمع رايلي معنوياتها وتقول، "سنتأكد من أن يحظى الأطفال بأفضل عام (...) وأن نجعله سعيدا قدر الإمكان".