«الاقتصاد البنفسجي» .. الثقافة بوصفها استثمارا طويل الأجل

«الاقتصاد البنفسجي» .. الثقافة بوصفها استثمارا طويل الأجل
«الاقتصاد البنفسجي» .. الثقافة بوصفها استثمارا طويل الأجل

تتمظهر الثقافة من حولنا، وتحتوي على مجموعة لا نهائية من الموضوعات، وتتفاعل أيضا حول القضايا الأخلاقية والتنموية والسياسية الجدلية التي تتمثل في صور شتى بوصفها مذهبا أو رواية أو فيلما أو مسلسلا أو أنشودة أو أبياتا من الشعر أو فنونا من العمارة، فتساعدنا على فهم مجتمعاتنا.
في كتاب ثري يحمل عنوان "إعادة التفكير في التنمية الثقافية .. لاستئناف وصل المؤسسات والسياسات والأخلاق"، لمؤلفه الدكتور محمد محمود عبدالعال حسن، يتناول الثقافة بإمكاناتها الكامنة بوصفها قوة دافعة للتنمية المستدامة، تسهم في إيجاد قطاع اقتصادي قوي وقابل للاستمرار، في مفهوم يطلق عليه "الاقتصاد البنفسجي".
الثقافة والتنمية .. أحدهما علة للآخر
يرى الكتاب أن التنمية القائمة على أسس ثقافية ووعي قيمي وفضاءات إبداعية تجعل من الحضارة حركة اجتماعية متكاملة الإيقاع، لأن الثقافة عموما، والتربية والفنون خصوصا، من وسائل التأثير والدعاية وتشكيل الذوق العام والتحكم فيه وغرس القيم والجماليات الحقيقية، وهي قادرة على تبديل مظاهر الحياة اليومية لتكون أداة بناء أو تدمير وفق رؤية صناعها.
الكتاب الصادر عن العبيكان للنشر والتوزيع، ويقع في نحو 330 صفحة، يستند إلى دراسات الحالة في ماليزيا واليابان والصين وكوريا الجنوبية، التي تمكنت من إيجاد صيغة ما مقبولة للتعامل مع قيم الوافد في ثقافتها، حيث يحاول الكتاب مناقشة رؤية الخطاب الثقافي الذي يتسم في الأغلب بالتبسيط والجزمية، حيث يفترضون عدم نجاح ميكانيزمات التنمية وتفاعلاتها، إلا عبر إعادة إنتاج قيم أو ثقافة بعينها! وهو خطاب يفترض الآلية في العلاقة بين الثقافة والتنمية على أساس أن أحدهما علة للآخر، أو أن ثمة معطيات سلبية يجب نبذها وأخرى إيجابية علينا الاحتذاء بها، وهم على حق في جزء من رؤيتهم، فمن الضروري أن تقوم الثقافة والقيم تحديدا بدور ما، لكن ما هو مقدار هذا الدور؟
جدوى ثقافية
يعرج الكتاب على اتجاهات فلسفات التاريخ، ويسعى لفهم الثقافة في إطار اقتصادي أو الاقتصاد في سياق ثقافي، حيث يتضح ذلك في تأخر أو تقدم أمة من الأمم، مثلما يفسر الجيولوجي وقوع الزلازل أو الأرصاد الجوية أحوال الطقس. فهل نستطيع ذلك رغم أن التنبؤات في الاقتصاد والثقافة غامضة؟
ويرى أن التنمية الثقافية لن تنجح إذا ما اقتصرت على أجهزة الثقافة على نفسها، إذ تظهر الحاجة إلى التوجيه بين عدد من الإدارات الحكومية وغير الحكومية لتنسيق العمل المجتمعي والثقافي ومنع التداخل والازدواج وتبادل الخبرات والاعتمادية المتبادلة.
ورغم اعتماد مسألة تمويل التنمية الثقافية على بعض المعايير الاقتصادية كالتكلفة والفائدة والعائد والأخطار، يرى المؤلف أنها ينبغي أن تتكئ على اعتبارات وجدوى اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، وهو ما يجعلها محل اهتمام الجميع، فالثقافة نوع من الاستثمار طويل الأجل، ووسيلة في البناء المعنوي للأفراد، وليس إنتاجا واستهلاكا بالطريقة الاقتصادية البحتة.
بؤس الخيال التنموي
تطرح أغلب الأدبيات العربية مفهوم التنمية متأثرة بالمفهوم الغربي للتنمية، الذي يستند إلى مستويات المعيشة ومقدار التمتع بالخدمات والسلع ونوعيتها وكميتها، وربما يكون مرد ذلك إلى ما يسميه المؤلف "بؤس الخيال التنموي"، ويوثق أن صك مفهومي "البعد الثقافي للتنمية" و"التنمية الثقافية" يعودان إلى المؤتمر الدولي الحكومي الأول الذي أقامته منظمة اليونيسكو 1970 في إيطاليا، بهدف تطوير أفكار حول كيفية دمج الثقافة في التنمية.
وشبهت الثقافة بالضلع الرابع الموازي للأضلاع الاجتماعية والاقتصادية والبيئية في مربع التنمية، لأن مجال الثقافة والتنمية مجال معرفي جديد وهجين، ينبغي الجمع فيه بين تخصصات مختلفة بشكل مبدع موجه نحو السياسات.
ولم يكن من باب المبالغة أن يقول جاك لانج وزير الثقافة الفرنسي مقولته الشهيرة، "الثقافة والاقتصاد معركة واحدة"، وكأنما كان يقرأ المستقبل، ويثور الجدل بين الباحثين: هل الاقتصاد جزء من الثقافة؟ هل الثقافة أحد جوانب التنمية إذا قصد بها التقدم المادي أم وسيلة لها؟ وهل الثقافة هي الهدف والغاية من التنمية؟
الاقتصاد البنفسجي
يكشف الكتاب طبيعة الثقافة والدور الأساس الذي تقوم به في عملية التنمية، وفي تحسين نوعيات الحياة، بل في توفير فرص العمل عبر ما يسمى "الاقتصاد الإبداعي" تارة أو "الاقتصاد البنفسجي" تارة أخرى.
ويقدم الدكتور محمد عبدالعال - ‏مدرس السياسات والإدارة العامة والمحلية في معهد التخطيط القومي والحاصل على دكتوراه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة - متطلبات إنجاز التنمية الثقافية، عبر بانوراما تصورية لأهدافها وأركانها الثمانية، وشروطها الأربعة "الوعي بالذات، الحرية الفكرية، استيعاب العصر، إعداد الثروة البشرية"، ومقوماتها الخمسة، ودعائمها الثلاث، فالتنمية في بعض الأدبيات هي في الأساس عملية ثقافية بالمعنى الواسع للكلمة والإبداع الجماعي والذاتي، والتنمية المنشودة تعبير عن تغيير مجتمعي إرادي وهادف يمكن المجتمع ككل من الإبداع والتجديد الذاتي كما وكيفا، حتى يضمن البقاء لنفسه بوصفه كائنا تاريخيا حيا.
ويبين عبدالعال أن الأركان الثمانية للتنمية الثقافية أساسية، وإذا انعدم أحد هذه الأركان يصبح من الصعب وجود تنمية ثقافية، وتتلخص في أن تكون هذه التنمية جزءا من مشروع تنموي شامل ذاتي ومستقل يعتمد على النفس، وأن يؤمن لهذه التنمية التمويل الكافي، وتسن لها التشريعات القانونية اللازمة سندا ودعما، وتقام المؤسسات الخاصة بالبحوث الثقافية تدرسها إحصاء وإنتاجا ومردودا وتضع لها السياسات والخطط، ويتوافر لها الجهاز الثقافي المحترف الحديث "الإداري والمرفق والتمويل"، وتؤسس لها الصناعات الثقافية الضرورية، والتكامل والتعاون في الوسائل والأهداف بين الثقافة وأجهزة التربية والإعلام والشباب والآثار والسياحة والمالية والداخلية، فضلا عن توافر القرار السياسي وإيمانه بأن الثقافة حاجة إنسانية وشرط للبقاء كالخبز.
ويعود الكتاب إلى التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية، الذي حدد خمسة مقومات للتنمية الثقافية، هي التعليم، الإعلام، حركة التأليف والنشر، والإبداع بتجلياته في الأدب والسينما والمسرح والموسيقى والغناء، إضافة إلى العمل الثقافي الذي تتكفل به المؤسسات، وتستند في هذا كله إلى دعائم ثلاث هي: الأيديولوجيا، والتعبئة الاجتماعية، وبناء المؤسسات الثقافية.
الأفكار الممرضة في عالم الثقافة
يشير الدكتور محمد عبدالعال في ختام كتابه القيم إلى مسائل متعددة حول مستقبل إدارة التنمية الثقافية، من أهمها معضلة الأفكار الممرضة التي تنقل الأمراض الثقافية والاجتماعية من جيل لآخر، وكان ممن نبه إلى هذا المعنى المفكر الجزائري مالك بن نبي، فالعبرة بالثقافة التي تنتج أسباب التقدم والتنمية إزاء الثقافة التي تنشئ الشروط النفسية والاجتماعية لما هو التخلف بجميع صوره وأنواعه، وأهمها القيم السلبية كاللامبالاة، والنفعية، والاستهلاك، والذاتية والأنانية، والتواكل، والتفسخ، والبلبلة، والخدر والتحلل والتمييع الفكري والأمية.
ويشير إلى أن الخطير عندما نبدأ إحياء عالم الثقافة المحشو بالأفكار الميتة بأفكار قاتلة مستوردة من حضارة أخرى، كما يرى أن من إيجابيات رقمنة الثقافة توفير الوقت والجهد والإنجاز وحضور المعلومة أو المصدر، إلا أنها باتت أحد الأخطار لهذا القرن، إذ يمكن للأنظمة البيومترية التي تسيطر عليها الشركات العابرة للقارات أن تروج لتغذية مصالحها، وزيادة الاستهلاك، وبث قيمها وعاداتها وأفكارها ورذائلها وفق نقاط الضعف التي تراءت لها وهي تحلل الميول السلوكية والتفضيلات الخاصة بقاعدة البيانات التي تمتلكها.
ويحذر الدكتور عبدالعال كذلك من المفاسد الثقافية الأربعة: الاستتباع الثقافي، التخريب الثقافي، التنميط الثقافي، التلبيس الأخلاقي، ويستدل على أهمية التنمية الثقافية في ختام كتابه "إعادة التفكير في التنمية الثقافية"، مستشهدا بالحكمة الصينية التي مفادها، "إذا كنت تفكر لعام مقبل فابذر البذور، فيكون حصادك لمرة واحدة، وإذا كنت تفكر لعشرة أعوام مقبلة فاغرس الأشجار، فيكون حصادك لعشر مرات، وإن كنت تفكر لقرن مقبل فعلم الناس، فعندما تعلم الناس فإن حصادك سيكون 100 ضعف".

سمات

الأكثر قراءة