شبح الذاكرة الأزلية ونهاية عصر النسيان

شبح الذاكرة الأزلية ونهاية عصر النسيان
"الحذف: فضيلة النسيان في العصر الرقمي".

تحدث الروائي الفرنسي ميلان كونديرا، في رواية "البطء" (1995)، عن وجود "رابط سري بين البطء والذاكرة، كما بين السرعة والنسيان"، فالتأني والإمهال يتيح أمام الذاكرة حيزا زمنيا واسعا للتلقي الجيد أولا، ثم الاستيعاب والتخزين بعد ذلك. عكس الابتدار والعجلة حيث يعجز مخزن الذاكرة على التعامل مع طوفان المعلومات والأفكار التي تنهمر عليه من كل حدب وصوب.
فالصراع المرير بين العدوين اللدودين، الذاكرة والنسيان، بتعبير الفيلسوف بول ريكو "الذاكرة والتاريخ والنسيان"، كان أساسا اعتمده الفيلسوف نيتشه للاعتقاد بأن الحيوانات أكثر سعادة من الإنسان، لأنها تعيش بشكل "لا تاريخي"، أي أنها تعيش الحاضر كما هو ولا تخفي شيئا. خلاف الإنسان الذي يعمل على تجاوز بعض من ذكرياته من أجل سعادته، فالنسيان هنا نعمة، يمكن المرء من تجاهل ذكريات الماضي التي تبقى مصدر شقائه.
باتت هذه النعمة في العصر الرقمي مهددة، أكثر من أي وقت مضى، فالتوثيق المفرط في الزمن الراهن، يقود إلى انتصار ماحق للذاكرة ضد النسيان، في صراعهما التاريخي. فالمعلومات الرقمية، تكاد تكون غير قابلة للزوال أبدا، حتى ولو كانت الرغبة تحدو أصحابها في إزالتها بشدة. بذلك تكون قدرة الإنسان على إبعاد الماضي عنه شبه مستحيلة، فنتيجة الإمعان في الرقمي هي ديمومة الماضي في الحاضر.
تشكل هذه الحقيقة أحد أكبر التحديات التي تواجهها المجتمعات، مع إثخان البشرية في العوالم الرقمية، وتعاظم الحيز الذي تشغله الأجهزة الرقمية من حولنا. وقد سبق لباراك أوباما، الرئيس الأمريكي الأسبق أن حذر من الأمر، حين خاطب - في ولايته الرئاسية الأولى - طلاب المدارس الثانوية قائلا، "توخوا الحذر فيما ترفعون من مشاركات على الفيسبوك"، ثم أضاف مثبتا نهاية عصر النسيان، "إن كل ما تأتون به من أفعال الآن سيعود ليلاحقكم في فترة لاحقة من حياتكم".
تفيد كل المؤشرات أن الإنسانية تودع بشكل لا رجعة فيه عصر النسيان، فهذه الميزة التي رافقت البشرية على مر التاريخ، لم يعد لها مكان في الحقبة الرقمية. فالأدوار الطلائعية التي تضطلع بها وسائل التواصل الاجتماعي غيرت كل شيء من حولنا، ولا سميا عقب إدخال التصوير الفوتوغرافي والفيديو واندماج الكاميرا في الهاتف النقال، ما سمح بانفجار التوثيق داخل منصات التواصل الاجتماعي.
صحيح أن التصوير الفوتوغرافي كنشاط إنساني انتعش مبكرا، فمنذ ستينيات القرن الـ19 ادعى نحو 30 ألف فرنسي كسب عيشهم من هذا المجال، وما يرتبط به من أعمال. لكن حصاد تلك الانتعاشة يبقى متواضعا مقارنة بـعوائد الثورة الرقمية، فحتى وقت قريب كانت فكرة التقاط الفرد عشرات الصور ممارسة غير شائعة، قبل أن تلتقط البشرية، في 2000، أزيد من 80 مليار صورة حول العالم، وبحلول 2015 ارتفع الرقم إلى أكثر من تريليون صورة.
الإفراط في التوثيق الرقمي يجعل مسألة التحكم في الماضي أمرا متعذرا، فمحاولة أي شخص قتل البيانات القديمة من معلومات وصور وفيديوهات... والبدء من جديد غير واردة في الحقبة المعاصرة. وذلك ببساطة لأن الصراع الحقيقي لم يعد بين الذاكرة والنسيان، بل بين النسيان والقيمة المتزايدة للبيانات، بما في ذلك البيانات التي لم تكن ذات يوم تحمل أي قيمة جوهرية على الإطلاق.
يوما بعد آخر تدرك البشرية أن الاختفاء الرقمي بات مشكلة الحاضر والمستقبل، فمسألة أن ننسى أو ننسى صارت تحديا في العصر الرقمي. على سبيل المثال، بات شبه مستحيل، في زمن منصات التواصل الاجتماعي، معرفة ما إذا كانت صورة محرجة أو ذكرى مؤذية للإنسان قد اختفت إلى الأبد في العوالم الرقمية. وبات فعل التخريب "التمزيق أو الحرق" الذي يستغرق بالأمس مجرد ثوان، مهمة غير ممكنة اليوم.
قد يرى كثيرون فيما سبق نوعا من المبالغة والتهويل، لأن مسألة النسيان ببساطة لا تتطلب - من كل راغب فيها أو باحث عنها - سوى إغلاق النوافذ الموجودة على الأجهزة الرقمية، على غرار إغلاق النوافذ في المنزل، حتى يدخل المرء في عوالم النسيان. نظريا، يبدو الأمر سهلا، فإغلاق النوافذ وسحب الستائر يحجب عنا الرؤية، ويمنع العالم من إمعان النظر إلينا. لكن عندما نغلق نوافذ جهاز رقمي، لم يعد بإمكاننا رؤية ما هو موجود "على الإنترنت الذي أغلق"، ولكن هذا الفعل لا يمنع الآخرين من التحديق إلينا. بينما نأخذ قسطا من الراحة الرقمية، يمكن للآخرين مراقبتنا والاستمرار في ذلك بكل أريحية.بات إجهاز الطوفان الرقمي الجارف على ميزة النسيان إشكالا يقض مضجع الأكاديميين والخبراء، فكتبت الأمريكية كيت إيكورن، الخبيرة في الدراسات الاجتماعية والثقافية، تنبه في كتاب "نهاية النسيان: التنشئة بين وسائط التواصل الاجتماعي" (2023) إلى الخطر المحتمل لم يعد يتمثل في اختفاء الطفولة، بل بالأحرى في إمكانية وجود طفولة دائمة لا تمحى من الذاكرة. "إن الأزمة الحقيقية للعصر الرقمي ليست اختفاء الطفولة، بل شبح طفولة لا يمكن نسيانها أبدا".
في عالم المطبوعات، كان الكبار يتولون الإشراف على ما لا يمكن للأطفال الوصول إليه، فتشكيل الطفولة وتسجيلها مهمة منوطة بالبالغين. عكس ما عليه الحال اليوم، حين أصبح الأطفال أحرارا في تشكيل عوالهم الخاصة، وحتى ملؤها بالمحتوى الذي يروق لهم. بذلك تنقلب الصورة من اختفاء الطفولة إلى الطفولة الأبدية، ويدفعنا التمكين الرقمي المنحرف إلى التساؤل عن قدرة المرء على تجاوز طفولته وشبابه إذا ظلت حاضرة معه على نحو دائم؟
وقبل نحو عقد ونصف، كتب الأكاديمي النمساوي فيكتور ماير شونبرغ كتاب "الحذف: فضيلة النسيان في العصر الرقمي" (2009)، مطالبا بضرورة التدخل العاجل من أجل تصحيح هذا الوضع الكارثي، الذي يبقي الإنسان أسير قيود الماضي، والتفكير في سبل إعادة ضبط التوازن، وجعل النسيان أسهل قليلا من التذكر.
يروج الباحثون حاليا لأكثر من طريق يمكن اتخاذه مخرجا لتجاوزه هذه الأزمة، فبين قائل بخيار الدفع مقابل الحذف، بدل استثمار البيانات لكسب الشركات الأموال يتولى الفرد الدفع لقاء تمكنه من الاختفاء الرقمي أو تعقيم السمعة الرقمية حتى تكون مناسبة. وبين مدافع عن خيار التحيين، أي الحصول على حذف رقمي من خلال التبادل المستمر للبيانات مع الشركات.
مع التغول التكنولوجي في مناحي الحياة، باتت خيار التعفف الرقمي أمر صعبا جدا، ما يحتم على الإنسان الحيطة والحذر قبل نشر أي صورة أو فيديو أو وثيقة أو نص على أي منصة من منصات التواصل الاجتماعي... فنعمة النسيان، بتعبير نيتشه، في طريقها إلى الزوال بما صنعت أيدي الناس، من أي موقع كان، "أن تنسى وتنسى ليس هو الشيء نفسه، لكنهما مرتبطان ارتباطا وثيقا".

سمات

الأكثر قراءة