«الخط الأبيض من الليل» .. قاضي الكتب حينما تأسره دهشة القراءة
القراءة دهشة، نعيش فيها متعة التجربة التي عاشها كاتبها وكأننا كنا جزءا من القصة، فكيف إن كان القارئ هذه المرة هو الرقيب، أو كما يوصف "قاضي الكتب" الذي يظلم ويعدل، ويسمح بتداول الكتاب أو يمنعه، وأول من يقرأ الكتاب.
يغامر الروائي الكويتي خالد النصر الله بوضع فكرته هذه على الورق، فالقصة درامية بشكل يستحق أن يروى، في رواية حملت عنوانا فريدا "الخط الأبيض من الليل"، ترشحت للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية في 2022، وتحظى بألق كبير لدى القراء، لموضوعها وجاذبيته، وأسلوب الكاتب السردي.
مريض بالقراءة
كاتب النفس الطويل، خالد النصر الله يهدي كتابه "إلى إسماعيل فهد إسماعيل.. حديثنا الذي لم ينته"، و"إلى سارة.. أصل الأشياء"، ويثير فضول القارئ منذ الصفحات الأولى عن شخصية "مريضة بالقراءة" منذ الطفولة، تعيش صراعات في بيئة العمل، والحياة الشخصية، ويضع قضية فسح الكتب ومقص الرقيب في الحسبان، فيحار القارئ في رأيه تجاه هذه القضية الشائكة.
الرواية الصادرة عن دار الساقي وتقع في 270 صفحة، تدور أحداثها في أجواء سياسية دستوبية، إذ تتداخل السلطة في صراع مع الشعب وتلعب الشخصية الرئيسة دورا مهما في الأحداث التي تتصاعد حدتها مع توغل القارئ في صفحاتها، حتى يقوده هوسه ورغبته إلى نهاية مفاجئة.
المدقق المهووس
القراءة جهد لا يستهان به، لكنها متعة في حد ذاتها، ولا سيما لإنسان ليس سوى "آلة قراءة"، لا يحب القراءة فحسب، ولا يمارسها كعادة مكتسبة، إنها أكثر من حالة هوس، تعلمها باكرا، حتى وصل الحال بأبويه أن يمنعانه عنها، ولضيق حيلته في أحد الأيام، صار يقرأ مكونات الأطعمة خلف العلب والأكياس، والتحذيرات على ظهر الأجهزة الكهربائية، وقطع القماش في طيات ياقات الملابس، وكل ما يمكن قراءته على رقعة مكررة وخالية من الأفكار.
هوس "المدقق" للكتب لا يمكن قياسه، حتى إن والده حينما توفى بأزمة قلبية مفاجئة، ورغم الحزن العارم لوفاته، كان في مراسم العزاء يدخل إلى غرفته كل عشر دقائق ليقرأ صفحتين من كتاب، ويعود مجددا لاستقبال المعزين.
في قسم تدقيق الكتب يقضي بطل الرواية حياته، يعمل لمنع أي كلمة مخالفة أو فكرة غير سليمة، ويسمح بتداول الكتب وفقا للمعايير المتفق عليها في دولته، ضمن فريق من الموظفين يصفهم المؤلف بأنهم يألمون حين يمنعون كتابا، بتفاوت درجات الألم، في وظيفة يحرم عليهم أن يفصحوا عنها خوفا عليهم لا منهم، فهو بالضبط مثل منفذ أمر الإعدام.
قدسية النص ونرجسية الفكرة
يسرد النصر الله حياة مدققي الكتب كما لو عاشها شخصيا، وفي حياتهم تختلط العبارات والفقرات أحيانا، كثيرا ما يقرأ المدقق جملة ويدعي أنه طالعها في مكان آخر، وفي سياقات مختلفة، تجده يتناول فكرة من كتاب ويزعم أنه يعرف المصدر الذي استوحيت منه، أحيانا أخرى يقرأ صفحات ويتنبأ بالآتي، فيصدق.
المدقق بطبيعة الحال، كأي قارئ، لديه رؤية ناقدة فذة، يخبرنا عن قصته مع روائي أرسل كتابه للفسح والتداول، لكنه وجد به محظورات، وآثر أن يمنعه من التداول، فتواصل مع الروائي للقائه والتعديل لاستبدال المحظورات، لإعجابه بالفكرة والكتاب ككل، وحتى لا يلقى الكتاب مصيره ممنوعا، ويحرق كحال الكتب الممنوعة، وأخيرا، استكان المدقق والروائي على مفردة واحدة فقط محظورة يستوجب حذفها أو استبدالها، لكن هل يستجيب الروائي لهذا الطلب الذي يمس قدسية النص ونرجسية الفكرة؟
ماذا لو تخاذل المدقق؟
ماذا لو أجاز المدقق كلمة محظورة، ماذا ينتظره تاليا؟ في الرواية يعرج بنا النصر الله إلى إحدى القصص العالقة في تلابيب ذاكرة أحد المدققين، ويروي حادثة حينما ساعد أحد الموظفين مؤلفا بالتجاوز عن مخالفات صريحة، ونشر الكتاب ووزع على المكتبات، وبعد مدة رفع أحدهم دعوى قضائية على الإدارة والمؤلف، وانتقلت الحادثة إلى الصحف ووسائل الإعلام، حتى انتهت بربح المشتكي ونجاة المؤلف وفصل الموظف.
كتب في تقرير أسباب القرار أنه تخاذل في حفظ قيم المجتمع وصيانتها وحقر عاداته وأعرافه، وأهان شرف المهنة، لتوحي لنا القصة بأن هذه التجاوزات يجري اكتشافها عاجلا أم آجلا، "فالمجتمع يشاركنا الوظيفة"، على حد تعبير أحد المدققين القدامى.
تحيلنا الرواية أيضا إلى حادثة فوز رواية ممنوعة من التداول بإحدى الجوائز الدولية، وحظي الخبر بضجة على نطاق عالمي، انتهت بجلسة طارئة في البرلمان لمناقشة مشروع قانون إلغاء تدقيق المنشورات المطبوعة، وبعد مداولتين من التصويت أجمع الأعضاء على إنهاء حقبة حظر الكتب.
ختام مدهش
عقب ما حدث في إدارة تدقيق الكتب، وإنهاء تلك الوظيفة، وانتقال جميع منسوبيها إلى إدارات بمهام مملة، بات يشعر المدقق بالإحباط والاكتئاب، واقتنع بأن مرض الكلمات علاجه الكلمات، فأصبحت تراوده فكرة كتابة رواية، فالحكايات التي يشاهدها في أحلامه كفيلة بإيجاد أجواء سريالية سحرية، ومخزون المفردات وثروة المعلومات في إمكانها أن تسفر عن عمل جيد، لكنه أيضا على وعي تام بأن هذا المزيج ليس سلاحا كفيلا بصناعة متن أدبي عظيم.
خالد النصر الله حكواتي جيد مثل بطل روايته، بارع وخياله خصب، يأخذنا إلى حياة المدقق الشخصية، فهو العاشق الذي قطع عهدا على نفسه بالزواج ممن يحب، شريطة أن يقرأ عشرة آلاف كتاب، ثم يعيدنا بخفة ورشاقة إلى إدارة التدقيق التي عاودت عملها بطريقة جديدة، بعد الاستعانة بجهاز للتعرف على الكلمات المحظورة.
يميل المدقق إلى الروائيين المتمردين، ويستعين بمطبعة ورثها عن أبيه، فيصير ملاحقا تقوده رغبته وهوسه إلى نهاية مفاجئة ومريبة، تاركا خلفه رواية محفورة على جدار مخبأة، حيث يقودنا البناء السردي المحكم إلى ختام مدهش، كما يصفه الدكتور مرسل فالح العجمي، أستاذ النقد الأدبي في قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب في جامعة الكويت.
يشار إلى أن خالد النصر الله كاتب وروائي وعضو "رابطة الأدباء" في الكويت، حصل على جوائز عدة في مسيرته الروائية، ووصلت روايته "الدرك الأعلى" إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد في 2017.