السوشيال ميديا .. «كذبة كبيرة»
يخطئ من يعد أنه بإمكاننا العيش خارج حدود السوشيال ميديا أو التطبيقات الإلكترونية، التي بدأت تأخذ حيزا كبيرا من اهتماماتنا اليومية وتسيطر على أفعالنا تجاه مختلف المشكلات التي تصادفنا. دخلنا في فلكها حتى وصلنا إلى مرحلة من الذوبان الكلي معها، وكأن من يعيش خارج إطارها ولا ينكب على استخدامها، يعيش خارج حدود الزمان والمكان ولا صلة تربطه بهذا العالم المتغير بطريقة مخيفة.
وصل الاهتمام بمواقع التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتويتر وإنستجرام وتيك توك إلى حد الهوس والإدمان، وخرج عند شريحة من الناس عن حدوده الطبيعية. وأوجد حالة من التفاعل قلبت عديدا من المقاييس الاجتماعية والإنسانية، وقدم السطحية والقشور على غيرها من القيم، وأدخلنا في نفق غامض بات الخروج منه صعبا إن لم نقل مستحيلا.
ولأن السينما حاضرة في كل تغيير، فقد كان لها دور في نقل التحولات الاجتماعية التي فرضتها مواقع التواصل الاجتماعي من خلال فيلم "كذبة كبيرة" للمخرج اللبناني نديم مهنا، الذي نجح في نقل واقع فيه كثير من الجنون، بعدما استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي اختراق حياة الناس وتبديل سلوكهم. يتناول العمل الذي استغرق تصويره نحو عامين، فكرة تأثير تلك المواقع في الجميع، وكيف يتحول في بعض الأحيان إلى إدمان فيدمر حياة عديد من الأشخاص في المجتمع.
رسائل اجتماعية وإنسانية
يتناول الفيلم قصصا مختلفة تحكي عن علاقة وطيدة تربط أصحابها بالسوشيال ميديا، حيث ينقل هوس السوشيال ميديا في حبكة سينمائية مميزة، رسالتها واضحة ويلتمسها المشاهد من خلال متابعته ويخرج بنصائح وإرشادات اجتماعية وإنسانية تؤثر في طبيعة علاقته بعالم مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيرها المباشر في حياته وسلوكياته.
وجاءت فكرة العمل من خلال ما تعكسه مواقع التواصل الاجتماعي من صور مبالغ فيها في أحيان كثيرة، تنقل ما نتمنى أن نكونه أكثر ما تنقل الواقع، وتغض النظر عن كثير من الحقائق وإن كانت تنجح في أحيان أخرى بإيصال صورة أكثر وضوحا لواقع مؤلم أو حقيقة جارحة، وهذا ما جعل المخرج نديم مهنا وبحسب تصريح له يخفف من حدة بعض القصص التي يتضمنها نص فؤاد يمين ورامي رضوان لكي تتلاءم أكثر مع مجتمعاتنا.
آفة اجتماعية
لا نبالغ حين نصف مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الإلكترونية بأنها كذبة نعيشها، فعندما نستخدمها بذكاء قد تساعدنا على الارتقاء نحو جوهر القيم الإنسانية لكن متى خضعنا لشروطها السطحية أوقعتنا في الحضيض وحولتنا إلى مدمني تطبيقات وهمية وقصص خرافية إلى حد كبير.
يعالج الفيلم كذبة نعيشها بالكوميديا والدراما، كما يطرح قضية وآفة اجتماعية مهمة في عصرنا الحالي، بحيث يسلط الضوء على العالم الافتراضي، الذي فيه من الحقيقة بقدر ما فيه من الكذب، وإذا أسأنا استخدامه يتحول إلى كذبة كبيرة نعيش في متاهاتها، وننجر خلفها بحيث نصل بها إلى نقطة اللارجوع، ننفصل عن واقعنا محاولين فرض واقع جديد لا يشبهنا لكننا نسعى إلى تحقيقه، وبالتالي يدخلنا في دوامة من الرفض التي تترك آثارا سلبية على المستوى النفسي والعاطفي والعائلي والتربوي. كما أنه يطرح فكرة التنمر والفرق بين الشهرة الحقيقية والشهرة المزيفة ما يولد صراعا داخليا بين ما نتمنى أن نكون وما يمكننا أن نكونه. لذلك نجد كثيرا من الأحداث التراجيدية والكوميدية المليئة بالأحداث المشوقة المفصلة على قياس الشخصيات المتعددة الموجودة في العمل والتي تحمل كل واحدة منها رواية لا تشبه غيرها.
بين الدراما والكوميديا
تتمحور قصة الفيلم حول شخصيات مختلفة لكل منها قصتها الخاصة، يجمع بينها تأثير السوشيال ميديا في حياتهم. "ياسمين" التي تجسد دورها هبة نور، صحافية استقصائية تستخدم حسابها على السوشيال ميديا بطريقة توثر في مجتمعها إيجابيا، من جهة تواجه التنمر الذي تتعرض له ابنتها المقعدة في المدرسة، من جهة أخرى تقوم بكشف فضائح لرجال أعمال وسياسيين بعد أن يتم طردها من التلفزيون الذي تعمل به. أما "جيسيكا" تؤدي دورها ساندي فرح، امرأة جميلة ومتزوجة، تجد ملاذها في عالم السوشيال ميديا، مدمنة مواقع تواصل بكل ما للكلمة من معنى، تنقل تفاصيل حياتها الزوجية بشكل يومي، وتتشارك مع متابعيها خصوصيات علاقتها الزوجية. من جهته، يعقوب شاهين يجسد شخصية الشاب المهووس بجماله والحريص على نقل تفاصيل حياته الرياضية من داخل النادي الرياضي إلى المسابح وغيرها على مواقع التواصل، مدعيا أنه كوتش لايف أي مدرب حياة ومستغل جماله في التأثير في متابعيه. هذا إضافة إلى شخصيات جسدت أدوار الهاكر الخطير والسياسي الفاسد ورجل الأعمال والطبيب النفسي، وعالجت المشكلات الناتجة عن التعلق المفرط بمواقع التواصل وتأثيرها المباشر في حياتنا اليومية.
كما لا يمكننا إغفال شخصيتي فوكسي وفريد المرحتين، وهما "صانعا الأحلام"، يبيعان متابعات وإعجابات مزيفة، ندخل معهما عالم القرصنة، والجانب المظلم لعالم السوشيال ميديا. وينضم إلى هذه الشخصيات، صديق "جيسيكا"، "بوب" وزوجته، اللذان يعيشان تأثيرات السوشيال ميديا في حياتهما الزوجية بأبعاد سلبية موجعة.
الأطفال والسوشيال ميديا
ينتمي أغلبية الممثلين في الفيلم إلى فئة الأطفال والمراهقين، وذلك لأن الشخص الناضج مسؤولا عن خياراته وأفعاله، لكننا نجد أولادا يقعون ضحية للسوشيال ميديا، فهم يشكلون 90 في المائة من نسبة مستخدمي المواقع، بإدمان وبشكل مكثف. ما يقومون به خطير جدا على مستقبلهم وصحتهم، لذلك يضيء الفيلم على ما يحصل مع الأطفال بهدف لفت نظر الأهل حول الأحداث التي يمكن الوقوع فيها نتيجة الاستعجال بتقديم هواتف خلوية لهم، والنتائج السلبية على أدائهم المدرسي والاجتماعي، وانعكاس ذلك على صحتهم الذهنية وعلى نظرهم وقدرتهم على التركيز بسبب الإدمان على المنصات أمثال "تيك توك" و"إنستجرام".
الارتقاء أم الحضيض؟
يعالج السوشيال ميديا من كل جوانبها، والجملة التشويقية الخاصة به تقول، "إنه عالم السوشيال ميديا، يمكن أن يستعمل بذكاء ويرتقي بك، كما يمكنه أن يتحول إلى إدمان ويضعك في الحضيض"، ويضم عددا من النجوم الذين "يملأون مكانهم في الفيلم، ويقدمون الشخصية بمنتهى الاحتراف"، منهم مجدي مشموشي، فؤاد يمين، هبة نور، لورا خباز، يعقوب شاهين الذي يخوض تجربة التمثيل للمرة الأولى، شربل زيادة، ساندي فرح، فريد حبيش وغيرهم. وهذه خلطة من نجوم شباب لبنانيين، سوريين وفلسطينيين، لديهم حنكة السوشيال ميديا والتجربة الطويلة في هذه المواقع، ويظهر ذلك جليا عبر صفحاتهم وتفاعلهم الدائم عليها، خصوصا "إنستجرام".
وفي المحصلة، إن الفيلم يعالج أسئلة كثيرة وكبيرة في إطار لا يخلو من المواقف الكوميدية، وقد تحدث الكاتب والممثل فؤاد يمين عن الصعوبات التي واجهها في كتابته، واختصرها بأنها كمية أفكار كبيرة وداتا واسعة طرحها، استعان بها لكي يستطيع ملامسة شرائح اجتماعية مختلفة، وجمع معلومات كثيرة في مدة قصيرة. هذا وتجدر الإشارة إلى أن فيلم "كذبة كبيرة" سيعرض حصريا على منصة "ستارزبلاي" بعد نهاية عرضه في صالات السينما.