مخاوف على المال الأمريكي في الصين

"الولايات المتحدة مستعدة لمنافسة شديدة مع الصين"
جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة
لا يوجد شيء يمكن أن يزيل التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، سوى أن يتم وضع التفاهمات دائما على الطاولة. المواجهات الكلامية لم تجد نفعا بالفعل لأي من الطرفين، ولو كانت ذات قيمة وأثر، لحققت أهدافها حين وصلت إلى أوجها في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب. هذا الأخير كان مستعدا للمضي أبعد من مواجهات كلامية لو وجد أن الأمر يتطلب ذلك. التوترات التي لم تتوقف بوصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، وتؤثر بقوة، ليس فقط في الخلافات الجيوسياسية المعروفة بين واشنطن وبكين، بل تنعكس بخطورة شديدة على أوضاع الشركات والاستثمارات الأمريكية في الصين عموما، التي بلغت مستويات عالية في الأعوام الماضية، على الرغم من تهديدات ترمب لها بعقوبات وملاحقات مالية، إذا لم تنسحب من الساحة الصينية.
بالطبع لم يتمكن الرئيس السابق من تنفيذ تهديداته هذه، لأسباب تتعلق أولا بخروجه من الحكم، وثانيا لصعوبة الإقدام على هذه الخطوة، نظرا إلى الخسائر الفادحة التي ستتكبدها هذه الشركات، إضافة إلى الفوضى التي كانت ستحدثها. ولأن الأمور لم تهدأ بوصول الديمقراطيين إلى الحكم في واشنطن، على عكس توقعات الحكومة الصينية التي صدمت من تشدد بايدن حيال بكين، ومع توسع دائرة الخلافات والاختلافات، ولا سيما في ظل موقف الرئيس الصيني شي جين بينج من الحرب في أوكرانيا التي تعدها الولايات المتحدة حجر الزاوية لعلاقتها الدولية عموما. إضافة طبعا إلى مسائل أخرى جيوسياسية قديمة متجددة، باتت الشركات الأمريكية تعيش حالة من الرعب من أي تفاقم متوقع للعلاقة بين واشنطن وبكين، على الرغم من التأكيدات الأخيرة لجو بايدن، بأن "بلاده لا تسعى إلى صراع أو مواجهة". وذهب أبعد من ذلك حين قال قبل أيام، "إن الخلافات مع بكين قد تذوب قريبا".
تصريحات أمريكية مشجعة ومحورية، خصوصا مع إعلان البيت الأبيض، أنه يدرس رفع العقوبات عن المسؤولين الصينيين. إنه تحول إيجابي بالفعل، لكن ذلك لم يقلل من مخاوف المستثمرين الأمريكيين شركات وأفرادا، من أن تدهورا جديدا في العلاقات المشار إليها، قد يؤدي بها إلى ما حصل مع نظيراتها في روسيا في أعقاب اندلاع الحرب في أوكرانيا العام الماضي. فقد تم قطع علاقاتهم بالساحة الروسية، وفي بعض الحالات تمت عمليات شطب ضخمة حقا. وإذا ما حدث هذا السيناريو على الساحة الصينية، فإن الاستثمارات الأمريكية المقومة بمئات المليارات من الدولارات ستكون في خطر. وفي الآونة الأخيرة، أقدم عدد متزايد من المستثمرين الأمريكيين على إعادة تقييم اعتمادهم "وخاصة المصنعين" على الصين. ماذا يعني ذلك؟ سيبحثون عن سلاسل إمداد بديلة، أو يبتكرون منتجات يمكن تصنيعها في أماكن خارج البر الصيني.
والذي يرفع من حدة مخاوف هؤلاء أكثر، أن السلطات الصينية قامت في الآونة الأخيرة بحملة دهم استهدفت شركاتهم وحققت مع العاملين فيها، حتى إن هذه السلطات منعت "على سبيل المثال" الشركات الصينية من شراء أشباه الموصلات من إحدى الشركات الأمريكية المعروفة بهذا المنتج المهم جدا في أغلبية الصناعات. والخوف على الاستثمارات الأمريكية في الصين عموما، ينبع أساسا من أنها أكبر بكثير جدا من مستوياتها على الساحة الروسية. فهذه الاستثمارات ارتفعت من 18 مليار دولار سنويا في 2000 إلى نحو 125 مليار دولار في 2021. في مطلع العام الجاري، نشرت جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية الرصينة تقريرا مهما تحت عنوان يعكس حقيقة ما يجري، "الأمريكيون يضخون استثمارات أكثر في الصين، وهم ليسوا على دراية بذلك". وبالفعل لهذا العنوان دلالات كبيرة، خصوصا على صعيد توغل المال الأمريكي في الساحة الصينية.
في العام الماضي بلغ حجم الاستثمارات الأمريكية في الشركات الصينية "وليس الأمريكية في الصين" 11 مليار دولار. ما يؤكد مجددا أن هذه الاستثمارات تتداخل بقوة في الكيانات الصينية ذاتها. ووفق الأرقام الرسمية، فإن حصة الصين من التصنيع العالمي تصل إلى 31 في المائة، أي ضعف حصة الولايات المتحدة البالغة 17 في المائة، يضاف إلى ذلك طبعا، أن السوق الصينية تعد محورا رئيسا للصادرات الأمريكية عموما. ومن الضغوط التي تتعرض لها الشركات الأمريكية، مساعي الإدارة الأمريكية "لا تزال في نطاق المساعي" في خفض استثمارات الشركات الأمريكية في الصين، بصرف النظر عن اللهجة الهادئة الأخيرة من جانب الرئيس بايدن حيال بكين. أي أن هناك مخططات قيد الدراسة لإعادة النظر في هذه الاستثمارات.
وبالمحصلة، إن تخارج الشركات الأمريكية من الصين ليس بالأمر السهل، في ظل مستوى الاستثمارات الكبير، وتداخلها في هيكلية الحراك الاقتصادي الصيني. وأي تفاقم للتوترات الراهنة بين أكبر اقتصادين في العالم، سيمثل وبالا على الشركات من الطرفين بالطبع، لكن سيكون أكبر على الجانب الأمريكي إذا ما تعذر وصوله بسرعة إلى مواقع إنتاجية وتصنيعية جديدة، وضمان سلال التوريد بما يتوافق مع الاحتياجات. وفي النهاية يبقى التفاهم أفضل وسيلة لحماية مصالح الطرفين، والأهم لتجنب مواجهة لا يمكن للعالم أجمع حسبان كيف يمكن أن تنتهي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي