تعليم الشباب النزاهة منذ الصغر
تشرفت خلال الأسبوع الماضي بالمشاركة في فعاليات نادي النزاهة الصيفي وذلك بدعوة كريمة من جمعية الشفافية الكويتية، والهيئة العامة لمكافحة الفساد في الكويت الشقيقة، ونادي نزاهة الصيفي يأتي هذا العام في دورته الخامسة، وهي مبادرة مشتركة مع مؤسسة الشفافية الدولية، ورغم الأجواء الانتخابية البارزة جدا هذه الأيام في الكويت وانشغال كل من جمعية الشفافية وكذلك الهيئة العامة لمكافحة الفساد بمراقبة العملية الانتخابية لمجلس الأمة الكويتي، إلا أن عزم المؤسستين لم يفتر تجاه مبادرة نادي نزاهة الصيفي تحت شعار "الشباب من أجل النزاهة والشراكة والتعلم"، لقد جاءت مشاركتي ضمن محور إعداد جيل لديه القدرة على البناء، وتضمن المحور نقاشا ثريا عن الجودة في التعليم ومعايير النزاهة في العملية التعليمية، وكذلك تعليم المستقبل، وهذه موضوعات لا يختلف اثنان على أهميتها.
لقد تحدثت عن رأيي الشخصي في جودة التعليم، وموضوع النزاهة عموما في أكثر من مناسبة ومقال، وهو رأي مبني على القراءة العميقة في هذا التخصص دامت لأعوام، مع تجارب بحثية وخبرات ميدانية، الجودة ليست أكثر من القدرة على اكتشاف الخطأ والقدرة على التقرير عنه، فالجودة رغم كل التفاصيل الإجرائية والمعايير التي دخلت في إطارها من أجل الفوز بشهادة أو اعتماد، ليست أكثر من هذا، ولقد استخدمت المعايير التفصيلية بشكل مختلف تماما وتسويقي بحت للفوز بالعوائد على أساس أن الجودة قد أصبحت الدجاجة التي تبيض ذهبا. ومع إقراري التام أنه لا فكاك من الإجراءات كوسيلة يمكن من خلالها اكتشاف الخطأ والتقرير عنه، لكنها مسألة مساحة عمل أكثر منها مفهوم للجودة. هذا هو الشق الأول من المسألة في نظري، بينما الشق الثاني، يأتي من أن الجودة ليست في البحث عن أي خطأ مهما كان، بل تكمن في الأهمية النسبية لهذا الخطأ، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال إدارة المخاطر، فالجودة وإدارة المخاطر صنوان ووجهان لعملة واحدة. هذا هو رأيي الذي أؤمن به، لكن تحقيق هذه المسألة يتطلب أبعد من مجرد رأي، وأكثر من مجرد شهادات وأوسمة، بل هي تتعلق بإعادة صياغة التاريخ، وبناء حضارة حقيقية ترتكز على هذه المفاهيم.
لتوضيح هذه العبارة، يجب أن أعود إلى ما كتبه جوستاف لوبون صاحب كتاب فلسفة التاريخ، وهو كتاب صعب وثري في الوقت نفسه، ويحتاج إلى قراءة مع أستاذ مختص، فجوستاف لوبون ليس كاتبا عاديا، وليس من السهل الوصول إلى فكره بمجرد القراءة، كما أنه ظهر في حقبة القرن الـ19 وهي الحقبة التي كانت الحتمية الإنجليزية في أوج انتصاراتها، لذلك يقدس نظرية المعرفة المبنية على قانون الحس العام وينكر غيرها. جوستاف لوبون يرى أن الحضارة تصنعها الأمم التي لديها أخلاق قوية، وهذا مبدأ مهم جدا، كما يرى أن تربية وثقافة أي أمة تظهر في منتجاتها سواء المادية أو الأدبية، ويرى أيضا أن الأمم ذات الأخلاق القوية قادرة على الانتصار على الأمم التي ليس لديها تلك القوة ولو كانت أكثر ذكاء، ويرى أيضا أن الحضارة تكمن في اللاشعور، أي: في التكوين الداخلي النفسي للأمم، وأن التربية هي عملية إدخال الشعور في اللاشعور. هذه المبادئ الخطيرة التي يقرها جوستاف لوبون هي المفصلية في بناء الأمم وحضارتها وانتصاراتها.
إذا أردنا أن نعود إلى مفهوم النزاهة والشفافية، فهي من قواعد الأخلاق العامة، والدولة التي تكتسب مثل هذا الخلق تعد دولة وشعبا قويين، لكن حتى الآن فإن مفاهيم مثل النزاهة والشفافية وما يرتبط بها مثل الجودة وإدارة المخاطر والحوكمة عموما، لا تزال تعمل عند مستويات الشعور في معظم الشعوب التي استوردت هذه المفاهيم ولم تكن من منتجاتها، بمعنى أنها مجرد إجراءات حسية تتعلق بالحواس كأن يكون هناك قواعد للسلوك مكتوبة وموقع عليها، لا بد من آليات للإقرار بتعارض المصالح، والمصلحة الشخصية، لا بد أن يكون هناك نماذج عمل للجودة ونماذج للمخاطر وآليات قياس معينة محددة، وعند الوصول إلى مثل هذه المنتجات الحسية يأتي شعور زائف بتحقق مفاهيم عليا من النزاهة والشفافية، رغم أنها لا تزال في مرحلة الشعور، بينما الحضارة تعمل عندما تترسخ المفاهيم الأخلاقية العظيمة عند مستويات اللاشعور، أي: تعمل ويتم تفعليها داخل النفس الإنسانية، ويتم قبول الطرف الآخر وإقصاؤه من الحضارة بفعل هذه المولدات اللاشعورية، فعندما يتم إدراك النزاهة والجودة والشفافية وغيرها في اللاشعور يصبح المجتمع مبرمجا ذاتيا لرفض كل من يفقد هذه العناصر، وبالتالي يصبح المجتمع ككل يدا واحدة في التصدي للفساد ونقائص النزاهة، وذلك دون معايير ودون نماذج عمل ولا تأكيدات الجودة، وقد تأتي بعد منتجات تعزز ذلك كله في شكله المادي المتوائم مع ثقافة هذه المجتمعات وطرائق تربيتها.
كيف يمكن الوصول إلى هذه المرحلة، لا بد من إدخال الشعور بالنزاهة والشفافية في اللاشعور عند الشباب وذلك من خلال التعليم من الصغر، ولا بد من إشراك الشباب في هذه المسألة الحاسمة لمستقبلهم، فالنزاهة تعد من معايير الأخلاق القوية وبها ينتصر الجيل القادم على التحديات، التعليم بكل أركانه من الابتدائية حتى الجامعة لا بد أن ينخرط في مشروع تعليم النزاهة، لقد أثمرت هذه الأفكار في الكويت عن إقرار أول منهج للنزاهة في كلية الحقوق في جامعة الكويت وتتم الآن دراسة تقريره على كل التخصصات، وفي اعتقادي أن مثل هذه الجهود ستثمر بتوفيق الله.