الطرق .. أول مساعي الإنسان نحو التواصل
نسمع كثيرا أن العالم أصبح قرية صغيرة، بفضل الثورة الرقمية التي ألغت المسافات بين الأفراد، مؤكدة صدق نبوءة الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهن، الذي عد أن وسائل الإعلام ستحول هذا العالم مترامي الأطراف، نتيجة تطورها السريع، إلى مراكز "إرسال وتلق" لا يفصل بينها سوى جزء من الثانية، تجعل الجميع على اطلاع بما يجري من حوله، في "القرية الكوكبية"، دون اعتبار عنصر المسافة التي سقطت بشكل كلي.
فكرة تصغير العالم لم تكن وليدة عصر التكنولوجيا، بل كانت منزعا يحرك الإنسان منذ القدم، فالحفريات تفيد أصالة وعراقة الفكرة في الاجتماع الإنساني. وفي ذلك تأكيد على مقولة أن الإنسان "كائن اجتماعي بطبعه"، من خلال السعي إلى الاقتراب من الآخرين، ومد جسور التواصل مع الغير، والحرص على التبادل الثقافي والمعرفي وكل المنافع التي من شأنها أن تسهم في بناء وإرساء صرح الحضارة الإنسانية.
كان شق الطرق والمسالك لوصل القرى والأرياف بالمدن والمراكز الحضرية، منذ العصر الحجري الحديث، أولى خطوات الإنسان عبر التاريخ قصد تقريب الأماكن أملا في تصغير العالم. وإن كانت روايات المؤرخين تفيد بأن الإنسان استلهم فكرة شق الطرق، من الحيوانات في سيرها عبر البراري والجبال، وعمل على تطويرها تدريجيا، بما تجود به الطبيعة من مواد والعقل البشري من ابتكارات، حتى أضحت على الشاكلة التي نراها في الحقبة المعاصرة.
تاريخيا، يصعب الحديث بدقة عن بداية شق الطرق في العالم، لكن المؤكد -حسب المؤرخين- أن الإنسان القديم اعتمد، منذ الألف العاشرة قبل الميلاد، خلال أسفاره دروبا محددة، وصفت في وقت لاحق بطرق العالم القديم. واستطاع العلماء إثبات أقدم طريق دولي، تعود نشأته إلى القرن السادس قبل الميلاد، في منطقة بدخشان الواقعة ما بين أفغانستان وطاجيكستان، استخدم بغرض تصدير أحجار العوهق "اللازورد" من وادي السند نحو عدد من المناطق.
تباعا، ظهرت الطرق في العالم القديم وفق ما ترسمه خطوط ومسارات القوافل التجارية، فتشكلت طرق طويلة ربطت آسيا بإفريقيا، من أفغانستان إلى مصر عبر بلاد ما بين النهرين. وشكل الصينيون خلال عهد أسرة هان، في الألف الأولى قبل الميلاد، طريق اللازورد التي ستعرف لاحقا باسم طريق الحرير الممتد عبر آسيا الوسطى حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ومن اليمن انطلق طريق البخور الذي ينقسم إلى طريقين، أحدهما شمالا صوب فلسطين، والآخر شرقا تجاه نجد ومنه إلى العراق وبلاد فارس.
كانت مسالك العالم القديم نتيجة الضرب في البراري والفلوات، إلى غاية القرن الثالث قبل الميلاد، حيث اهتدى الإنسان لفكرة تطوير الطرق بعد اختراع العجلة. وتضارب الروايات حول نسبة قصب السبق إلى أكثر من مدينة، فهناك من ينسب الأمر إلى مدينة أور في العراق، ورأي ثان يربطه بمصر الفرعونية، وعد آخرون العوارض الخشبية في "سويت تراك" في إنجلترا أقدم طريق مرصوف. وهكذا دواليك تطورت الفكرة عبر الزمن، حتى أنشأ الفرس طريقا بطول 2500 كيلو متر، وأبدع الرومان شبكة طرق مرصوفة بطبقات متعددة من الركام والحجارة المكسورة والكتل الصخرية، بلغت 78 ألف كيلو متر، على امتداد إمبراطوريتهم في أوروبا والمشرق وشمال إفريقيا.
تعد الطرق الرومانية النواة الأولى للطرق الحديثة، فكلاهما محكوم بالرؤية والفلسفة نفسها عند الإنشاء، من حيث الأغراض والغايات حتى في كيفيات البناء والتشييد. ويتعلق الأمر بضمان سرعة الانتقال والديمومة في الاستخدام، على اعتبار أن إنشاءها كان بهدف سهولة تحرك الجيوش والمعدات الحربية، لضمان الأمن والاستقرار في أرجاء الإمبراطورية.
ظل الوضع على ما هو عليه، حتى أواسط القرن الـ18 حين ظهرت محاولات ترمي تطوير كيفيات الإنشاء في فرنسا، حيث أقيمت طرق بسمك لا يتعدى 30 سنتيمترا. واهتم البريطانيون بالبحث عن حلول لمشكلة تصريف مياه الأمطار على سطح الطريق، وبرز في هذا المجال المهندس توماس تلفورد، الملقب بعملاق الطرق، وزميله جون لودون ماك آدم، أول من استعمل تعبيد الطرق بالحجر المكسر، وصاحب كتاب مرجعي في "منهجية رصف الطرق" (1827).
مطلع القرن الـ20، وبالموازاة مع التطور اللافت في صناعة المركبات التي كان الدافع الأساس وراء تطوير صناعة الطرق عالميا، استجابة لتزايد سرعة المحركات "من 16 إلى أزيد من 300 كيلومتر في الساعة"، فضلا عن متطلبات الحربين العالميتين الأولى والثانية التي حتمت مزيدا من المسالك لتسهيل حركة الجيوش والعتاد العسكري، فضلا عن تزايد الحاجة إلى مهابط الطائرات الحربية. وانقسم التشييد ما بين الإسفلت المنتشر في الولايات المتحدة، وهو مزيج من الحصى مع الزيوت النفطية بعد تصفيتها من الوقود، والتشييد ببلاطات من الخرسانة، كما هو الحال بالنسبة إلى ألمانيا مثلا.
تحتفظ دول عديدة بشواهد حية عن صناعة الطرق، فأطول طريق في العالم، والمعروف باسم الجادة الأمريكية يمتد على مسافة تقارب 50 ألف كيلومتر، يعبر 14 بلدا ما بين نقطة الانطلاقة في مدينة ديدهورس في ولاية ألاسكا، قرب البحر المتجمد الشمالي، وينتهي في مدينة أوشوايا في الأرجنتين. أما أخطر الطرق في العالم، فيبقى من نصيب بوليفيا التي يشتهر فيها طريق يونغاس باسم "طريق الموت"، لكونه معلقا على سفح جبل على حافة واد سحيق عمقه نحو 800 متر، مع منعرجات تودي بحياة 300 ضحية في العام.
بعيدا عن الأخطار تعرف دول بطرق جميلة، كما هو الحال في بالنسبة إلى طريق ميلفورد في نيوزيلندا، حيث المناظر الخلابة من الغابات المطيرة إلى الشلالات المهيبة، فضلا عن البحيرات التي تشبه المرأة العاكسة. وطريق المحيط العظيم في أستراليا، الممتد على طول الساحل الجنوبي الشرقي لأستراليا، حيث المناظر الخلابة للمحيط والصخور الجيرية الضخمة. وفي إيطاليا بالقرب من الحدود السويسرية طريق ستلفيو الذي شيد في 1820، ولا يزال بفضل منعطفاته الدقيقة يستهوي أصحاب الدراجات النارية. ولدى المملكة واحد من أجمل وأطول الطرق المستقيمة في العالم، والحديث هنا عن الطريق السريع رقم 10 بين مدينة حرض والبطحاء.
بقي أن نشير إلى أن الازدهار في صناعة الطرق لم يواكبه تطور على مستوى حالة السلامة على الطرق، فآخر تقارير منظمة الصحة العالمية يفيد بأن عدد الوفيات الناجمة عن حوادث الطرق السنوية بلغ 1.35 مليون وفاة. ما يجعل الأنظار معلقة على مشروع الطرق الذكية الذي يتوقع أن يرى النور مع المدن الذكية للحد من آفة حوادث السير التي عجزت البشرية حتى الآن عن وضع حد لها.