أزمة فوق أزمة

قبل عام 2019 عانى الاقتصاد العالمي ضعف النمو بشكل واضح، وما إن بدأت الدول الكبرى في إعادة ترتيب الأوراق حتى سببت أزمة كورونا أزمة اقتصادية غير معهودة، وسعى العالم إلى مواجهتها بأساليب غير معهودة أيضا، ما أوجد مشكلة في الإمدادات العالمية ومشكلات الشحن العالمية واضطرابات متعددة، ثم جاءت الأزمة الأوكرانية لتعيد المشكلة إلى المربع الأول وارتفعت المخاطر الاقتصادية بشأن الإمدادات بشكل حاد، وهذا تسبب في ارتفاع التضخم والأسعار بشكل سريع جدا مع عودة الاقتصاد العالمي إلى الطلب في ظل فجوة الإمدادات، وعادت بذلك المخاطر المالية الكلية إلى التصاعد وتباطأ النمو العالمي، ولم تجد الدول معالجة للتضخم غير رفع أسعار الفائدة التي تسببت اليوم في أزمة دين مع تزايد احتياجات الدول إلى الاقتراض بالعملة الأجنبية في ظل تشديد السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة، هذه الحالة الاقتصادية العالمية تسببت في تراجع الاستثمارات اللازمة لزيادة الإنتاج نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة ومستويات الديون.
ومن خلال المشهد السلبي جاءت مقدمة تقرير صندوق الدولي عن عام 2022، بعنوان أزمة فوق أزمة، لتقول إن العالم أصبح أكثر عرضة للصدمات.
ووصف البنك الدولي هذه الحال الاقتصادية الراهنة بالمرحلة المرهقة، وكأن العالم بات مرهقا جدا من هذا التصعيد المتتابع والأزمات التي تشد بعضها بعضا، ورجح انخفاض النمو العالمي إلى أقل من 2 في المائة في 2023 وقد يظل منخفضا لعدة أعوام، وأشار إلى أن أحد التحديات الكبيرة يتمثل في إسراف الدول المتقدمة في الاستدانة، ما سيتطلب توفير كثير من رأس المال لخدمة الديون، وهو ما لن يترك استثمارات تذكر للدول النامية، وهذا يعني استمرار النمو البطيء فترة طويلة، هذا مبعث قلق حاد، ولا سيما لمواطني الدول الفقيرة.
وفي عالم اقتصاده مرهق ترصد تقارير باحتمال تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها ويجتمع مسؤولو الشؤون المالية في مجموعة الدول السبع في اليابان لمناقشة الأهمية الكبيرة جدا لرفع سقف الدين الأمريكي وتجنب الآثار السلبية لاحتمال تخلف الحكومة الأمريكية عن سداد ديونها للمرة الأولى في تاريخها، فلدى الحكومة الفيدرالية حد أقصى قانوني لمقدار الديون التي يمكن أن تتراكم - يطلق عليها في الأغلب سقف الدين أو حد الدين، والكونجرس هو الهيئة التشريعية التي لها أن تصوت على رفع هذا الحد وقد فعل ذلك 78 مرة منذ 1960 دون مشكلات، فما الذي غير المسألة اليوم؟
لقد تصاعدت مشكلة رفع سقف دين الحكومة الفيدرالية الأمريكية منذ 2011، عندما استخدم الجمهوريون هذا الحق التشريعي كورقة مساومة لخفض إنفاق الحكومة وقبل 72 ساعة من إعلان تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها، وافق الجمهوريون والديمقراطيون على مشروع قانون رفع سقف الديون بمقدار 900 مليار دولار وخفض الإنفاق بنحو 900 مليار دولار، في تلك الفترة من أزمة سقف الدين لعام 2011 ارتفعت مقاييس مخاطر السوق، وضعفت مقاييس ثقة المستهلك وتصاعدت معدلات الرهن العقاري بما يراوح بين 0.7 و0.8 نقطة مئوية لمدة شهرين حتى بعد مرور أزمة سقف الديون في ذلك العام، كما ارتفعت أسعار قروض السيارات والقروض الشخصية والمنتجات المالية الاستهلاكية الأخرى في أعقاب أزمة 2011. ومن هنا نلاحظ أنه تطرح في الداخل الأمريكي عدة سيناريوهات لمواجهة أزمة سقف الدين الأمريكي.
والغريب في الأمر أنه رغم تلك الآثار القاسية فإن الميزانية الأمريكية قابعة في الجدال نفسه كل عام تقريبا، وفي كل عام يقف العالم محبوس الأنفاس حتى الساعات الأخيرة. لكن التخلف عن السداد أو حتى مجرد التهديد به في هذه المرة ستكون له آثار مدمرة، كما الحال الاقتصادية الراهنة بأنها مرهقة، ومع ارتفاع الأسعار عموما وفي ظل ارتفاع أسعار الفائدة القياسي فإن تأثير أزمة الدين الأمريكي لو تكررت ستعيد السيناريو نفسه في 2011 وترتفع بذلك معدلات الرهن العقاري الذي يعاني أزمة كارثية الآن مع تفاقم أزمة الرهن العقاري التجاري التي أشارت إليها "الاقتصادية" في تقارير عدة قبل أيام قليلة، إضافة إلى ذلك فمن شبه المؤكد أن التصنيف الائتماني للولايات المتحدة سينخفض، وبذلك سترتفع أسعار الفائدة على نطاق واسع لعديد من القروض الاستهلاكية، ما يجعل منتجات مثل قروض السيارات والرهون العقارية أكثر تكلفة للعائلات التي تخضع لتغييرات أسعار الفائدة أو الحصول على قروض جديدة.
والخطورة في الأمر أن تؤدي هذه العواقب وغيرها إلى حدوث ركود عميق مع تجميد في سوق الائتمان يمكن أن يضر بقدرة الشركات الأمريكية على العمل، وستمتد الآثار الوخيمة للعالم ككل، وأن الأزمة التي يتعرض لها أكبر اقتصاد في العالم ستؤثر بالسلب في الجميع، وستكون التداعيات سيئة وسلبية وسيشعر الجميع في أمريكا بآثار التخلف عن السداد. لكن حتى مع تجاوز هذه الأزمة فإن مشكلة سقف الدين ستعود إلى الواجهة كل عام، وسيقف العالم في حيرة وقلق، ولا بد من معالجة حقيقية لهذه القضية، والحل يأتي مع تعزيز الإنتاجية والنمو، ومعالجة إسراف الدول المتقدمة في الاستدانة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي