الاقتصادات المتقدمة وتحدي المخاطر الرئيسة «3 من 3»
هناك آراء قوية في الوقت الراهن تدعو إلى الالتزام بهذه الوصفات على مستوى السياسات في ظل البيئة الحالية من ارتفاع التضخم ومستوى الدين. أولا، حتى إن كان التضخم غير المتوقع يمكن أن يوفر قدرا من التخفيف للأعباء على المالية العامة في الأجل القصير، فإن الإذعان لنظام يتسم بالتضخم المرتفع والمتغير سيؤدي بالأسواق في نهاية المطاف إلى فرض علاوة مخاطر التضخم، أي زيادة أسعار الفائدة. ومن ثم يؤدي حتما إلى زيادة تكاليف الاقتراض الحكومي وتدهور آفاق المالية العامة. ثانيا، نظرا إلى أن الضبط المالي "تخفيضات الإنفاق أو زيادة الضرائب" يسهم في احتواء الطلب الكلي، فإنه يجعل مهمة البنك المركزي أسهل، فالانكماش النقدي قد يكون أقل حدة.
ومع ذلك، فإن تفاقم خصوم القطاع العام أثناء أعوام جائحة كوفيد - 19 يشكل تحديا أمام صلابة النموذج. فقد يتعذر تحقيق التعديل المطلوب في الفوائض الأولية واستدامته على أسس سياسية واقتصادية. والآن هناك احتمال كبير، بعد أن تنحسر أزمة التضخم الحالية، أن يرجع العالم إلى سيناريو الركود المزمن، حيث أسعار الفائدة الحقيقية المنخفضة R دون معدل النمو G. لكنه ليس سوى مواساة لا تنفع كثيرا. فالقيمة السالبة للمعادلة "سعر الفائدة الحقيقي - معدل النمو" R - G يمكن أن تساعد على احتواء ديناميكية نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي لكنها على الأرجح ستقترن بجوانب سلبية أخرى، مثل انخفاض نمو الإنتاجية. وقد تجد الحكومات نفسها واقعة تحت تأثير الضغوط لتحمل مستويات عجز ضخمة لأسباب اقتصادية أو اجتماعية، ومرة أخرى قد تتسبب مستويات الدين المرتفعة في ارتفاع علاوات المخاطر، ما يؤثر سلبا في نحو منهجي في آفاق المالية العامة.
في أعقاب الأزمة المالية العالمية، وفرت معظم البنوك المركزية آليات نقدية مساندة للديون العامة. وبعبارة أخرى، وقفت على أهبة الاستعداد، ضمنا أو صراحة، للتدخل في سوق الديون الحكومية لمنع أي زيادات في تكاليف الاقتراض بناء على توقعات تزايد أسعار الفائدة. ومن الأمثلة الرائدة في هذا المجال برنامج "المعاملات النقدية المباشرة" التابع للبنك المركزي الأوروبي في 2012.
ونجاح الآلية النقدية المساندة لا يتطلب قيام البنك المركزي فعليا بشراء السندات الحكومية. لكنها تعمل بصورة أفضل كتحذير موثوق بالتدخل يثبط المضاربة في الأسواق "أو بلغة المختصين الاقتصاديين، إنها تحول دون تنسيق المستثمرين توقعاتهم على أساس ارتفاع سعر الفائدة التوازني". غير أن موثوقية هذا التحذير تعتمد على عدة ظروف، من أهمها بدرجة كبيرة التعاون من جانب السلطات المالية. لماذا؟ لأن عمليات شراء السندات تعرض البنك المركزي لمخاطر تسجيل خسائر في ميزانيته العمومية. ومثل هذا الخسائر ستدفع السلطات النقدية إلى اللجوء لتشغيل مطابع الأوراق النقدية ومن ثم فإنها تحيد عن المهام المنوطة بها لتحقيق استقرار الأسعار. وما لم تقدم خزانة الدولة ضمانات مالية احتمالية على الميزانية العمومية للبنك المركزي "أي تحويل الأموال إلى البنك المركزي في حال الخسائر"، فقد ينتاب المستثمرين الشك في مصداقية السلطات النقدية بالمجازفة فعليا بالتدخل في السوق.
ومن شأن الآلية النقدية المساندة جيدة التصميم أن تستبعد وقوع أزمات المخاطر السيادية المحققة لذاتها. وما لم يكن الدين على مسار مستدام، اعتمادا على الآلية المساندة، فإن انخراط البنك المركزي في الدين الحكومي لن يؤدي إلا إلى زعزعة استقرار التوقعات التضخمية. وسيظل الاقتصاد عرضة لمخاطر توقعات التضخم المحققة لذاتها التي ترفع تكاليف الاقتراض الحكومي الاسمية والحقيقية على السواء.
هذه هي المخاطر الرئيسة التي تواجه الاقتصادات المتقدمة وبعض اقتصادات الأسواق الصاعدة حيث تكون ديونها "غالبا" مقومة بعملاتها الوطنية وبنوكها المركزية مستقلة. وتحقيق درجة موثوقة من التفاهم بين السلطات المالية والنقدية حول كيفية العمل معا لاحتواء مواطن التعرض لمخاطر الأزمات المدفوعة بالتوقعات، يشكل اللبنة الأساسية اللازمة لإيجاد نظام موثوق للسياسة الاقتصادية.