تعاملات تجارية بلا دولار
تخطط روسيا إلى تغيير قواعد التمويل التجاري منذ بدء الحرب في أوكرانيا، بعد أن تعاظمت العقوبات الغربية المفروضة عليها، لتكون الأكبر في التاريخ. وتتحرك منذ أشهر لاستبدال التعامل باليورو والدولار في تجارتها الخارجية، إلا أن الأمر ليس سهلا، كما تسعى الحكومة الروسية إلى تحقيقه، ولهذا السبب وضعت مخططات قيد التنفيذ من الآن.
فالتخلي عن هاتين العملتين يتطلب نظاما تمويليا مناسبا. المسؤولون الروس يتوجهون في هذا المسار، على أن يستكملوا الأرضية اللازمة لاعتماد اليوان الصيني والروبل الروسي، كعملتين بديلتين للعملتين الأوروبية والأمريكية. فالاتجاهات العامة للتجارة الروسية، خصوصا تلك التي تشمل الطاقة بأنواعها، تغيرت وتحتاج إلى شكل جديد آخر من التمويل، يوفر للحكومة في موسكو مزيدا من الاستقلالية عن نظام التمويل العالمي الذي يقوم أساسا على الدولار الأمريكي.
وفي الفترة الماضية ارتفعت حصة مساهمة اليوان الصيني في التمويل التجاري، لكنها لا تزال أقل بكثير مما يطمح إليه المسؤولون في بكين، وكذلك الأمر في موسكو. ومن هنا، فإن التعاملات التجارية بين روسيا والصين التي تقوم على تمويل عبر عملتيهما تزداد، وارتفعت إلى مستويات لافتة في الآونة الأخيرة، خصوصا مع سلسلة من الاتفاقات التي أبرمتها قيادتا البلدين في الفترة الماضية، ولا سيما خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينج لموسكو، التي أسست مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، بصرف النظر عن التحذيرات الغربية لبكين من مغبة التمادي أكثر في هذه العلاقات التي ربما -بحسب الغرب- ستصطدم بجدار العقوبات المفروضة على روسيا.
والحق أن الفترة الماضية، شهدت إتمام صفقات كبرى من الغاز الروسي مع الصين باليوان، إضافة إلى نسبة من الصادرات النفطية لبكين، وتم أيضا تمويل بعض الصفقات الأخرى بالروبل، إلا أن المسألة تحتاج إلى منظومة أكثر استدامة في المستقبل، لتثبيت التمويل بالعملات الوطنية الخاصة بالأطراف المعنية، وهذا يحتم على روسيا والصين تخفيف الاعتماد على الدولار تحديدا في التمويل التجاري، علما بأن حصة اليورو من هذا التمويل على المستوى العالمي ليست كبيرة ولا تتجاوز أكثر من 5 في المائة، في حين تصل حصة الدولار حتى اليوم إلى أكثر من 85 في المائة. ما يعني ضرورة تأسيس نظام تمويل في المرحلة المقبلة، يقلل هيمنة الدولار على المعاملات التجارية بين الدول، ولا سيما دول كبرى مثل الصين وروسيا.
ما تقوم به موسكو حاليا، عملية تطوير متواصلة للتسويات المتبادلة بالعملات الوطنية، فصادرات الطاقة الروسية للصين -مثلا-كبيرة، لكن لا تزال تحتاج إلى آليات تسوية، يعتقد المسؤولون الروس أنهم بحاجة إليها في المرحلة المقبلة. بمعنى آخر أن تنحصر التعاملات تماما في هذه العملات، التي ستلقى دعما كبيرا بالطبع في حال صارت جزءا أصيلا من المعاملات التجارية بشكل عام. ولعل من أهم الأسباب التي تدفع موسكو إلى التوجه نحو التمويل التجاري بالعملات الوطنية، الآثار السلبية التي تركها خروج المستثمرين الأجانب من روسيا، امتثالا للعقوبات الغربية الضخمة المفروضة على هذا البلد.
خلال الآونة الأخيرة تراجعت قيمة الروبل بنسبة 9 في المائة أمام الدولار، نتيجة نزوح الاستثمارات، حيث صار العملة الأسوأ أداء بين العملات الصاعدة بعد البيزو الأرجنتيني. أي قوة دفع للعملة الروسية عبر اعتمادها في التمويل التجاري، ستكون ضرورية في المرحلة المقبلة، إذا ما أرادت الحكومة الروسية المحافظة على قوة عملتها، من خلال فرضها في القطاع التجاري وتحديدا في مسار الصادرات فيه.