Author

التكتلات .. هل تعالج الأزمات؟

|

يتابع المهتمون بشؤون الاقتصاد بشغف بالغ كيفية خروج الاقتصاد العالمي من 2022 وهو في وضع مضطرب ومخيف، وذلك بفعل الأحداث الضخمة التي شهدها العالم خلال هذا العام، خصوصا الحرب الروسية الأوكرانية التي ترجمت أعباؤها ارتفاع أسعار السلع الأساسية كالطاقة والغذاء، فضلا عن الارتفاع الحاد في نسب التضخم، ولجوء المصارف المركزية إلى رفع مستويات الفائدة، ما انعكس ارتفاعا في معدلات الديون وانهيارا في أسواق الأسهم العالمية. وفي ظل هذه البيئة الصعبة، لا يضع المستثمرون في العالم آمالا كبيرة في أن تتحسن الأوضاع الاقتصادية خلال 2023، فالمؤشرات الحالية تخبرنا أن هناك كثيرا من المخاطر التي تتربص بالاقتصاد العالمي.
ومن هذه الصورة السلبية كثر الحديث خلال الفترة الماضية من معظم الجهات الدولية المتخصصة والخبراء والباحثين عن ضعف مؤشرات الاقتصاد العالمي وبطء نموه، والتوقعات القاتمة لتطور أدواته مستقبلا من أجل تحسين مستويات اقتصادات الدول المختلفة، ومن هنا لم يكن حديث مديرة صندوق النقد الدولي في منتدى التنمية الصيني جديدا بشأن عديد من القضايا التي تعصف بالاقتصاد العالمي اليوم، فكما هو واضح بأن الاقتصاد العالمي في العام الجاري لن يغير مسار التباطؤ إلى أقل من 3 في المائة، ولا تزال حجج آثار وتداعيات الجائحة والحرب في أوكرانيا وتشديد السياسة النقدية، هي الأسباب التي يعلق عليها الصندوق الدولي جميع أسباب التباطؤ في النمو العالمي، ومع إضافة مشكلة المخاطر التي تحدق بالاستقرار المالي والبنوك حول العالم، فليس أمام هذا الوضع سوى مواصلة التحذير والتعبير عن القلق والدعوة إلى "البقاء في حالة يقظة"، لمواجهة "انعدام اليقين" الذي ما زال "مرتفعا" في القطاع المالي، بعد انتكاسات وانهيارات شهدتها بنوك غربية أخيرا، ويتوقع أن يؤثر هذا الانهيار المفاجئ في الدول الأكثر عرضة للمخاطر، ولا سيما الدول منخفضة الدخل ذات المستويات المرتفعة من الديون.
ونلاحظ أن صندوق النقد قد ألمح إلى تلك المكانة الكبيرة التي حققها الاقتصاد الصيني وتأثيره العميق في نمو الاقتصاد العالمي، فتقديرات الصندوق تشير إلى أن كل زيادة بـ1 في المائة في نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين تؤدي إلى زيادة 0.3 في المائة في نمو الاقتصادات الآسيوية الأخرى، كما أنه من المتوقع أن تحقق الصين وحدها ثلث النمو العالمي في 2023، وفي سياق هذه الأرقام فهنالك تحذير من تقسيم العالم إلى تكتلات اقتصادية متنافسة، وهذا الاتجاه سيؤدي إلى "انقسام خطير يجعل الجميع أكثر فقرا وأقل أمنا وأقل قوة في مواجهة الأزمات المالية والاقتصادية المتوقعة مستقبلا.
وعودا إلى ما ألمحت إليه مديرة الصندوق الدولي وما حاولت الإشارة إليه هو تنامي الاقتصاد الإقليمي على حساب الاقتصاد العالمي، فالإقليمية تمثل واحدة من أكثر عمليات إعادة الهيكلة الأساسية التي تؤثر في الاقتصاد العالمي منذ تأسيس مبادئ التجارة الدولية في مؤتمر بريتون وودز، وتعد الإقليمية الآسيوية واحدة من أبرز الإقليميات التي أخذت أبعادا واسعة من التفاعل الاقتصادي وليس السياسي، فقد استطاعت تحقيق استراتيجيات نمو ناجحة وموجهة نحو الخارج، وتشير تقارير الصندوق الدولي إلى أن دول إقليم جنوب آسيا حققت انتعاشا قويا بلغ 6.5 في المائة في 2021، و4.0 في المائة في 2022 رغم بيئة عالمية غير مؤكدة، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 4.3 في المائة في 2023، ومع القلق وعدم اليقين اللذين يلفان الاقتصادات المختلفة حول العالم، والركود الذي يهدد أمريكا والاتحاد الأوروبي، فإن آسيا لا تزال نقطة مضيئة نسبية في الاقتصاد العالمي، لكن ذلك يجعل دول الإقليم الآسيوي اليوم أقرب إلى بعضها بعضا، ولا أدل على ذلك مما أشارت إليه تقديرات الصندوق الدولي أن كل زيادة بـ1 في المائة في نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين تؤدي إلى زيادة 0.3 في المائة في نمو الاقتصادات الآسيوية الأخرى، فالارتباطات واضحة وقوية للغاية بحيث إن المصالح المشتركة بين الدول الإقليمية الآسيوية تتزايد في الأعوام الأخيرة، وقد عززتها الاتجاهات التكنولوجية الجديدة وصعود الهند، وأثبتت الجائحة بأن تجنب المشكلات المرتبطة بسلاسل الإمداد يتطلب تطوير شبكات الإنتاج بروابط فاعلة للنقل والاتصالات، تعزز القدرة التنافسية الدولية لشركات الإقليم، وتشير بعض الدراسات إلى أن دول جنوب شرق آسيا استطاعت تحقيق زيادة في الترابط الاقتصادي لدول الإقليم كنتيجة تحسين النقل التجاري، إلى جانب زيادة تيسير التجارة وتطوير إدارة الحدود، التي أثرت بشكل ملحوظ في هيكل وسرعة التجارة.
من الجدير بالذكر أنها ليست المرة الأولى التي يتصاعد فيها القلق من التكامل الاقتصادي بين دول الإقليم الآسيوية، وهناك كثير من الدراسات منذ أزمة النمور الآسيوية في العقد الأخير من القرن الماضي، لكن عبارات مديرة الصندوق الدولي كانت أشد وضوحا هذه المرة وهي تحذر من تقسيم العالم إلى تكتلات اقتصادية متنافسة، وأن هذا سيؤدي إلى "انقسام خطير يجعل الجميع أكثر فقرا وأقل أمنا، خاصة في ظل حدوث أزمات مالية متكررة ومن بينها الأزمة المالية الأخيرة مع إفلاس عدد من البنوك التي أدت إلى حالة "انعدام اليقين" في القطاع المالي، التي تم تحييد آثارها حتى الآن، وبشأن ما "اتخذه صانعو السياسات من إجراءات حاسمة التي ظهرت بجلاء في القرارات السيادية للسلطات السويسرية لمعالجة مشكلة بنك كريدي سويس باستحواذ بنك يو بي إس السويسري، فإن الربط واضح بين مخاطر تصاعد الإقليمية وحدوث الأزمات المالية.
خلاصة القول، إن مديرة صندوق النقد الدولي أرادت تقديم رسالة مهمة وواضحة لجميع دول العالم من خلال تكتلاته الإقليمية أنه لا بد من تحقيق التضامن والتعاون العالمي ووقوفها جميعا بشكل موحد، من أجل أولا مواجهة الأخطار التي تحدق بالاقتصاد العالمي وضرورة عودة انتعاش سريع، وثانيا لا بد من طرح الحلول مجتمعة حتى يخرج العالم من مأزق مشكلاته الاقتصادية المستمرة والابتعاد عن تكرار أزمات جديدة.

إنشرها