«تحت شجرة السدر» .. شكل العلاقة بين الأدب وعلم النفس

«تحت شجرة السدر» .. شكل العلاقة بين الأدب وعلم النفس
تضيء الرواية العالم الروحي الداخلي للإنسان.
«تحت شجرة السدر» .. شكل العلاقة بين الأدب وعلم النفس
هل ثمة رسالة مبطنة في الرواية حول قوة المرأة وإمكاناتها الإنسانية؟

لا تزال الرواية تعد فنا حديثا مقارنة بالشعر، في وقت لا يزال ينظر فيه إلى الكتابة الأنثوية باعتبارها صوتا متمردا على الأعراف والثقافة والهوية، ولا سيما إذا ما كانت هذه الكتابة تسريدا للذات، أو تشريحا لقضايا المجتمع، في ساحة أدبية وصفت بـ"الوعرة".
وفي الرواية السعودية، ثمة أصوات نسائية تشير إلى مكامن الوجع، ومنهن روائية شابة وقارئة متعمقة، أصدرت روايتها الأولى عام 2020 بعنوان "تحت شجرة السدر"، هي الروائية هناء جابر، التي تحاورها «الاقتصادية» عن رواية بنص متماسك، تنهض بسؤال عريض هو: هل للإنسان يد في تحديد مجرى حياته، وهل يصنع تاريخه أم أن تاريخه الذي يصنعه؟
خطوة متزنة
عن بداياتها، تقول هناء جابر "إن هويتها الأنثوية دفعتها إلى التواري، فكتبت في المنتديات والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي تحت أسماء مستعارة، لدفع الضرر المحتمل عن انكشاف الهوية، وما زاد من ترددها في الكتابة باسمها تلك الإحصاءات التي تظهر حضورا أقل لحجم المنتج الروائي النسائي، وشحا في المشاركات النسائية والفوز بجوائز الرواية".
وفي عام 2015، جازفت جابر بالخروج من الشرنقة والانعتاق من القيود، وكشفت عن هويتها في أول إصداراتها "خلف الشبابيك"، وبعد عامين من إصداره تبعته مجموعتها القصصية "زمن المندرين الحلو"، ثم في عام 2020 أصدرت روايتها الأولى، التي تعدها تجربتها الناضجة وخطوتها المتزنة في الكتابة، وهي "تحت شجرة السدر".
وتضيف "أجد الرواية فنا يشكل ذاته من جديد مع كل تجربة جديدة، فالروائي يتوجه إليها ككل دون أن يجنح إلى الجزئيات، بصرف النظر عن جنسه. لذلك لا أعتقد أن الرواية النسوية فرع قائم بذاته من فنون الرواية، وإن اتسمت ببعض الخصوصية الأنثوية، لإدراك المرأة وعيها بذاتها وبحقوقها وبخطاباتها، في سبيل التعريف بهويتها، وليس باعتبارها عدوا وخصما للرجل".
روح التجديد
في نظرتها إلى الرواية النسوية الحديثة، ترى هناء جابر أن كثيرا من الروائيات العربيات تمكن من إضفاء روح التجديد على الرواية العربية، وذلك بطبيعة الموضوعات التي تناولنها، هي ظاهرة لها خصوصية وهوية، إلا أنه لا يمكن القول إنهن أوجدن جنسا أدبيا مختلفا.
فالرواية التي تجعل من ذات الكاتبة مركزا تدور في مداراته ليست اتجاها نسويا، بل اتجاها روائيا، وجد في الذات الإنسانية. وفي حالات أخرى، أعدها الأسوأ، لم يتجاوز أدبهن كونه ندبا وصراخا مجردا من القيم الفنية، متسما بسذاجة الطرح وأحاديته وبمعالجة سطحية للانعتاق والتحرر، على حد تعبيرها.
لملمة الأحلام والرؤى
تحمل رواية هناء جابر عنوانا موغلا في الرمزية، يرتبط بشجرة السدر، تعلق على ذلك بأن العنوان هو المفتاح التقني والعتبة الأولى للرواية، وللرمزية وظيفتها الجمالية والانتباهية والإغوائية، إذ يحمل العنوان بعدا رمزيا، صب في عبارة موجزة، لا يعبر عن الأمر المدلول عليه بشكل مباشر وصريح، لكنه يعبر عن حالة يتم استنباطها تدريجيا من خلال القراءة، هو ليس مجرد إشارة إلى حيز مكاني اعتادت الشخصيات الرئيسة في الرواية أن تجتمع فيه وتوثق علاقتها الفطرية بنظم الحياة الخضراء، بل هي الشجرة الأم والحضن الدافئ الذي ضمهم أطفالا حين كانت الطمأنينة تتسرب من شروخ عالمهم المتصدع، كل فرع وساق وورقة ألقت بظلها الآمن عليهم، واحتوت مشاعر الحزن والخوف والغضب واليأس والأمل والترقب والفرح والنشوة والحب، ولملمت أحلامهم ورؤاهم وما تفرق من أرواحهم، ولأن الأمان غذاء النفس المطمئنة وأساس الحياة المستقرة والمحور الذي تتحرك في مداره فصول الحكاية، جاءت "شجرة السدر" رمزا تعبيريا عنه.
تكشف الروائية عن دوافعها لكتابة الرواية، بأن كل رواية، قصة، مقالة، نص، كتبته بنية النشر كان دافعها فيه الرغبة الملحة التي لا يمكن إسكاتها أو تجاهلها لقول شيء ما.
تفكيك الأنا
الكتابة -وفقا لهناء- في هذه الحالة هي حاجتي لأن أقول "أنا"، وكما وصفتها جوان ديدون، هي ممارسة عنيفة لفرض عقلية الكاتب على أكثر مساحات القارئ خصوصية، وهذا ما كنت أحتاج إليه، فالكتابة هي صوت الكاتب المؤثر.
تقوم رواية "تحت شجرة السدر" على تفكيك "الأنا" من خلال تحليل عوامل باطنية في الشخصية، تتمثل في اضطراب الاكتئاب، وتتقصى روح الواقع والمحددات الخارجية، ولا سيما أن المؤثرات البيئية صارت توغل بشكل أعمق في الإنسان الحداثي، وترى الروائية أن البيئة الخارجية تشكل جزءا من السياق الأوسع لحياتنا ولها أثرها في تشكيل الإنسان ودورها في صراعاته العقلية.
ففي الرواية، تعرض عمار لأشكال عدة من العنف، منها العنف الجسدي متمثلا في الضرب المبرح، والعنف اللفظي بالصراخ والشتم والتحقير والمقارنة والسخرية، والعنف الاقتصادي بحرمانه من المصروف والتعليم الجامعي، والعنف العاطفي بتدمير ممتلكاته الشخصية "لوحاته" ذات القيمة المعنوية والمادية، والطرد من المنزل وعزله عن الأسرة، وكذلك العنف الاجتماعي بحرمانه من الارتباط بالمرأة التي يرغبها لأسباب تعود إلى الفوارق الطبقية، ولأن ضحايا العنف هم الأفراد الأضعف في الأسرة، كان هو الفرد الأكثر تضررا في المنزل.
كما تعرض للتنمر من أقرانه في بيئة المدرسة، واتخذ والداه موقفا سلبيا منه بالتجاهل والإهمال، وخلفت حادثة الاعتداء الجنسي في طفولته تبعاتها النفسية وامتدت مضاعفاتها إلى مدى بعيد، وأحدثت كل تلك العوامل تشوهات في البناء النفسي لعمار، انطلاقا من تقديره لنفسه، مرورا بعلاقاته بالآخرين، لتمتد إلى نظرته الشمولية للحياة، ولأن أسسه لم تكن منذ البداية سليمة، فقد دفعته في النهاية إلى الانهيار.
تقنية سيل الوعي
تضيء الرواية العالم الروحي الداخلي للإنسان، وهي وثيقة الصلة بالسيكولوجية الإنسانية، وبناء كل شخصية فيها يجسد شكل العلاقة بين الأدب وعلم النفس، ولكل أثر أدبي سبب سيكولوجي يخضعه للتفكيك والتحليل والمقاربة.
"تيار/ سيل الوعي" تحديدا تقنية سردية معنية بتصوير الأفكار والمشاعر المنسابة ذهنيا وباطنيا على هيئة محادثات داخلية غير مترابطة أو سلوكيات غير متسق بعضها مع بعض، وهذا الاستبطان منهج نفسي.
وتقول هناء جابر "على الرغم من أني كنت أنوي كتابة رواية درامية بطابع اجتماعي، إلا أن (تحت شجرة السدر) نهضت على أساس سيكولوجي، فالقارئ ينزلق إلى العوالم الداخلية لكل شخصية من شخصياتها، لتنكشف له تداعياتهم الحرة وفوضى أفكارهم ومشاعرهم، ومنها أدركت أن العلاقة وثيقة بين الرواية وعلم النفس، وأنه لا يمكن الفصل بينهما. فاكتئاب عمار، وتجنبية ماريا وأزمة هويتها، و(الأنا) المتضخمة لدى مريم، وعدوانية الأب، وانهزامية الأم، كلها تمثيلات سيكولوجية تحتاج إلى التبصر العميق، وقد تركت علامات يستهدي بها القارئ إلى طبيعة تكوين كل شخصية والمؤثرات التي أسهمت في بنائها، تمثلت في صدمات الطفولة، العوامل الجينية، الأساليب التربوية، الظروف البيئية، وكذلك السمات الشخصية".
رسالة مبطنة
هل ثمة رسالة مبطنة في الرواية حول قوة المرأة وإمكاناتها الإنسانية؟ تجيب الروائية بأنه "لو تقصينا بدقة نشأة كل من ماريا وعمار لوجدنا أن الأولى كانت الأوفر حظا في اكتساب بعض الخصائص، خاصة في مراحل النمو الأولى، أردت أن أشير إلى الاختلافات بين الإخوة في البيئة نفسها، رغم وجود قواسم تنشئة كثيرة بينهم، إن لم تكن عوامل متطابقة، ويعود ذلك إلى اختلافات فطرية في القدرات العقلية والصحة البدنية، والخصائص الشخصية المتمثلة في الميول، والدافعية، والثقة بالنفس، ومفهوم الذات، والسلوك التوكيدي، وكذلك نمط الشخصية (المنطوية أو المنبسطة)، وهو ما ينعكس على الانفتاح على الآخر أو الانغلاق على الذات والانسحاب".
وتختتم جابر إجاباتها الكاشفة "أنا هنا لا أنفي إرادة الإنسان ودوره في صناعة قدره، ولا ألغي حقه في الاختيار، ولا أحوله من الإنسانية إلى الشيئية باعتباره يسير على غير هدى وإرادة حرة، لكن لا يمكننا في الوقت ذاته تجاهل العوامل الوراثية والظروف البيئية وتحجيم دورها في تشكيل الإنسان ورسم مصيره، ذكرا كان أم أنثى، ويعود ذلك إلى اختلافات فطرية في القدرات العقلية والصحة البدنية، والخصائص الشخصية المتمثلة في الميول، والدافعية، والثقة بالنفس، ومفهوم الذات، والسلوك التوكيدي، وكذلك نمط الشخصية المنطوية أو المنبسطة، وهو ما ينعكس على الانفتاح على الآخر أو الانغلاق على الذات والانسحاب".

الأكثر قراءة