مفهوم عالم دون أسيجة وأسوار

تحدثنا بإيجاز شديد في الأسبوع الماضي عن الدور الذي تلعبة الأسوار في حياتنا ماضيا وحاضرا. وعرجنا على أن للسور أو الحائط أو السياج أو الجدار استخدامات شتى وقلنا إنها تؤطر مفاهيم وتؤدي وظائف مختلفة استنادا إلى السياق الذي ترد فيه. ورغم أن مفهومنا حول السور، مثل سور الصين العظيم، قد يبدو للبعض أن الدهر قد أكل عليه وشرب، لكن إن قرأنا ذلك بتمعن من خلال نظرة فاحصة إلى العالم الذي نعيشه، سنكتشف معاني ربما لم تخطر في البال.
عالمنا اليوم عالم خوارزمي، تلعب فيه الثورة الخوارزمية "الرقمية" بأشكالها التكنولوجية والذكية دورا بارزا ما جعل مسميات من مثل "العولمة" و"القرية الواحدة" و"عالم بلا حدود" وغيرها من التي تلوكها الألسنة في الأغلب دون جهد لتفكيك السياق الذي تأتي فيه، لا معنى لها تقريبا.
وصرنا نؤمن أن لا حاجة إلى بناء أسوار أو جدران، لأن ذلك سيكون مضيعة للوقت والجهد والمال، وأن القيام بذلك يرقى إلى مس من الجنون في عالم خوارزمي ألغى كل أشكال الأسيجة والحيطان والأسوار والجدران التي كانت تفصل دول وشعوب العالم عن بعضها.
كانت الأسوار في الماضي تشي بدلالات مختلفة، لكن أهمهما "الخوف". كانت الأسوار تبنى خشية هجوم الأعداء. كانت سلاحا يشبه الدرع التي تحمي الجندي من ضرب الرماح وقنص النبال.
نكون مخطئين لو تصورنا أن زمن تشييد ما يشبه أو يماثل "سور الصين العظيم" قد ولى لأن العالم الذي نعيش فيه والثورة الخوارزمية التي دخلت تقريبا كل مناحي حياتنا، قد حطمت سلاسل مثل الأسوار والحيطان.
ومفهوم عالم دون أسيجة وأسوار كان واقعا خصوصا في أوروبا بعد سقوط سور برلين في 1989. وسور برلين للذين لا يتذكرونه أو لا يعرفون عنه كثيرا، شأنه شأن أي سور آخر في التاريخ، كان حدا فاصلا: أبراجه يحرسها جنود مدججون بالسلاح يطلقون النار على أي فرد يحاول التسلق أو العبور. ومن العسر جدا اجتيازه، لأنك إن نجوت من نيران الحراس وقعت في شباك أسلاكه الشائكة. وتنفست أوروبا الصعداء بعد سقوط هذا الجدار الرهيب الذي سيظل رمزا لما يمكن للأسيجة البشرية أن تفعله أو توقعه من مآس.
وصارت أوروبا واحدة موحدة، حيث بعد سقوطه بأعوام قليلة تشكل الاتحاد الأوروبي واختفت الحدود الجغرافية كعائق بين دول الاتحاد وصارت الناس وحتى الأفكار تنتقل بيسر لم يعرف له التاريخ مثيلا. لكن الفرحة لم تدم طويلا. الأوروبيون أزالوا الحواجز بين دولهم وشعوبهم لكن لم يزيلوا الحواجز التي تفصلهم عن الشعوب والدول التي أغلبها كان يوما من المستعمرات التي تدر عليها لبنا وعسلا. وبعد نحو 30 عاما، نرى أن أوروبا ذاتها قد سورت نفسها بجدران وحيطان تمتد آلاف الكيلومترات منها ما يشبه حائط برلين سيئ الصيت.
ولم الخوف يا ترى؟ ولم كل هذه الأسوار؟ الحروب الحديثة لا تعيقها الأسوار.
أوروبا خائفة، وتبني الأسوار كي لا يقتحمها لاجئون هاربون من حروب ومجاعة وفقر مدقع جله سببه الدول الأوروبية الغربية ذاتها. لاجئون لا حول ولا قوة لهم، يولون وجوههم صوب الصحاري والجبال المكسوة بالثلوج والبحار الهائجة، وكثير منهم يلقى حتفه في رحلة المشقة هذه، ولا ينجو إلا من أسعفه الحظ وهو في حال يرثى لها، مع ذلك هناك حاجة إلى حائط شامخ ذي أبراج وجند وأسلاك شائكة لمنعهم من الوصول.
الأسوار مهمة لأن أوروبا "حديقة والبقية أدغال" والدغل يشلعه صاحب الحديقة ويرميه خارجا أو في النار. والقول بين علامتي التنصيص مقتبس من مسؤول أوروبي كبير. لكن هل حقا الأسوار في أوروبا هي من أجل فصل الدغل عن الأزهار في الحديقة؟
أليست هناك أسيجة تفصل بين "الأزهار" في الحديقة هذه؟ أو بالأحرى، أليس هناك دغل وشوك في الحديقة؟ هناك أسيجة كثيرة بين الدول الأوروبية ذاتها اليوم، والحرب في أوكرانيا قد زادتها منعة وعززت أبراجها بالجند والحراب.
فنلندا تبني الآن سياجا كي يفصلها عن روسيا، وهناك دروع بشرية وصاروخية وفكرية يتم تشييدها والثورة الخوارزمية التي بشرتنا بتحطيم الجدران صارت عاملا لتأسيسها وثباتها وتعزيزها.
كل دولة أوروبية أو غيرها لها حكمها الخاص وطرائقها المبتكرة لبناء أسيجة خوارزمية لمنع ليس حركة الناس بل عقول الناس من التغلغل والانسياب والتأثير في عقول أخرى.
عالمنا عالم الأسيجة، خوارزمية كانت أم أسمنتية تعلوها الأسلاك والأبراج.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي