الخطاب والعدالة في فهم الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين

تحدثنا بإيجاز شديد عن الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين في الأسبوع الماضي. وأنا أكرر الكتابة عنه في أسبوعنا هذا ليس ترويجا لهذا المفكر العملاق. إنه في غنى عن ذلك.
يكفي فيتجنشتاين ما قدمه للغة كمنهج وتأثير ودور في حياتنا، وهذا ما جعل منه أكثر فلاسفة اللغة تأثيرا.
في الأسبوع الماضي تحدثنا عن ألاعيبه اللغوية وكيف أنها تساعدنا على فهم سير الحرب الدائرة في أوكرانيا. ولا أخفي قرائي سرا ـ وبعيدا عن مدح الذات الأمر الذي لا أستسيغه ألبتة ـ فإنني لجأت إلى فيتجنشتاين في كتابة آخر بحث لي أحاول فيه تشريح الخطاب الذي يرافق الحروب في العقدين ونيف من القرن الـ21.
ولا أخفي قرائي أن قراءة فيتجنشتاين لن تكتمل دون تقديم أمثلة ونماذج من ألاعيبه اللغوية على شاكلة جمل مفيدة ـ اسمية كانت أم فعلية ـ من الواقع المعاش.
والواقع المعاش فيه من الحساسية كثير، لأننا لا نقرأ الجملة، أي جملة، بطريقة واحدة. كل جملة تسلط علينا معنى مختلفا يتماشى مع ميلنا وثقافتنا والصف الذي نقف فيه.
وأشتغل حاليا على بحث آخر أستقي فيه من ألاعيب فيتجنشتاين لتفسير الخطاب والمساعدات الدولية التي تنساب للتخفيف من المعاناة الرهيبة التي ألحقها الزلزال المدمر بكل من سورية وتركيا.
وسأترك الأمثلة جانبا، لأن أي جملة نردها ستترك وقعا مختلفا، وهذا ما يؤكده فيتجنشتاين، حيث يعلمنا أن معنى أي لعبة لغوية مفردة كانت أم عبارة أم جملة يحددها السياق.
وكم سياقا لدينا يا ترى؟ إن قلت إن هناك من السياقات بقدر عدد القراء، لربما أثار ذلك بعض العجب لدى القراء الكرام.
من العسر أن نتفق على قراءة موحدة لأي لعبة لغوية، لأن لسنا نحن الذين نحدد المعنى بل السياق.
وأين هو السياق وكيف تحدده لنا اللعبة اللغوية حسب فلسفة فيتجنشتاين؟
لنأخذ معادلة اشتقاقية في اللغة العربية وندرسها معا. هذه المعادلة الفعل فيها متعد، وتتألف من المكونات الأساسية للجملة في لسان الضاد.
والمعادلة اشتقاقية بقدر تعلق الأمر بالعناوين الصحافية، التي تخرج عن قاعدة الجملة في العربية حيث تبدأ في الأغلب بالفاعل وليس الفعل.
عند دراستي عناوين الأخبار باللغة العربية رأيت ظاهرتين لغويتين مهمتين: أولا، أن العناوين الصحافية بالعربية تستعير قاعدتها الاشتقاقية في أغلب الأحيان من الإنجليزية، ثانيا، لدينا نحو عشر قواعد اشتقاقية ذهبية لكيفية صناعة العناوين الصحافية في اللغة العربية.
كل قاعدة اشتقاقية تشكل لعبة لغوية في فلسفة فيتجنشتاين.
سأكتفي بإيراد قاعدة اشتقاقية واحدة وحسب. هذه القاعدة هي الأكثر شيوعا واستخداما في الصحافة العربية، حسب إحصاء قمت به للتحقق من مدى تداول القواعد الاشتقاقية العشر.
لننظر إلى القاعدة الاشتقاقية التالية التي هي بمنزلة لعبة لغوية وفق فلسفة فيتجنشتاين. أرفقها بمثال "بريء" كتبته من عندي:
من "فاعل" + فعل ماذا "فعل مضارع" + لمن "مفعول به" + ظرف المكان أو الزمان "شبه جملة جارو ومجرور"
فرنسا توقع اتفاقا في واشنطن خلال أسابيع.
وأترك للقارئ أن يطبق القاعدة الاشتقاقية بإيراد أمثلة يتغير فيها "من" و"فعل ماذا" و"لمن" و"أين".
عندها سنلاحظ حتى عند تطابق الأمثلة، فإن وقع "فعل ماذا" أي كان يقرره "من" و"لمن" وثم "أين ". و"فعل ماذا" قد يكون "يوقع" كما في المثال في أعلاه، أو يكون "يقتل" أم "يغزو" أم "يحتل" أم "يحاصر" أم "يضرب" أم غيره من "فعل ماذا".
تتألف القاعدة الاشتقاقية في أعلاه من أربعة أركان.
إنها حقا لعبة فيتجنشتاينة مثيرة، لأن مهما كان تصورنا عن استقلال عقلنا وأننا أحرار في قراءتنا، إلا أننا لا نقرر وقع "فعل ماذا". الذي يقرره لنا هي الأركان الثلاثة التالية"من" و"لمن" و"أين".
فنحن نرى "يقتل" أم "يغزو" أم "يحتل" أم "يحاصر" أم "يضرب" أم غيره من "فعل ماذا" ليس من خلال أعيننا، بل من خلال أعين "من" و"لمن" و"أين".
السياق الذي يقع فيه "فعل ماذا" وهو "من" و"لمن" و"أين" هو الفيصل حتى لو استبدلنا "فعل ماذا" بمفردة "يقتل" أو أي مفردة أخرى.
إنه حقا زمن العودة إلى فيتجنشتاين وألاعيبه اللغوية إن كان لنا أن نفهم العالم المعقد الذي نعيشه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي