أسعار الأدوية .. تجدد المناوشات بين الحكومات والمجموعات الصيدلانية
إذا كان هناك نوع من هدنة على أسعار الأدوية بين شركات الأدوية الكبرى والسياسيين خلال جائحة فيروس كورونا، فإنها قد انتهت الأسبوع الماضي بطريقة مذهلة.
انسحبت المجموعتان الأمريكيتان، إيلي ليلي وأبفاي، من نظام الأسعار في أوروبا الذي يعد الأكثر صرامة - بعد أن عاد إنفاق خدمة الصحة الوطنية على الأدوية ذات العلامات التجارية في عام 2022 على الصناعة بـ3.3 مليار جنيه استرليني على شكل تكاليف مستردة، أي نحو 26.5 في المائة من مبيعات المملكة المتحدة.
كذلك يدرس صانعو الأدوية ما إذا كانوا سينسحبون من اتفاقية مبرمة مع الحكومة الفرنسية، وفقا لما ذكره شخص مطلع على المناقشات.
كانت صناعة الأدوية تأمل أن يؤدي دورها في إنتاج اللقاحات والأدوية التي أسهمت في رفع حالة الإغلاق إلى إثبات قيمتها الاقتصادية لدى السياسيين الذين كثيرا ما اتهموها بتقديم الأرباح على المرضى.
لكن توماس كويني، المدير العام للاتحاد الدولي لمصنعي وجمعيات المستحضرات الصيدلانية، قال إن الحكومات انتقلت من تقديرها للابتكار السريع أثناء الجائحة، إلى حاجتها إلى "الضغط" على صانعي الأدوية بسبب الضغوط المالية التي تتعرض لها من نواح أخرى. أضاف أن الصناعة شعرت بخيبة الأمل بعد أن اجتمع ضدها السياسيون الذين يحاولون جذب الاستثمار، إضافة إلى البيئة التجارية الأكثر صعوبة.
ولكل طرف منهما سبب للتفاوض بجدية. فقد تسببت الجائحة في وضع أنظمة الرعاية الصحية تحت الضغط لاستخدام ميزانياتها للتعامل مع تراكم المرضى، في حين أدى التضخم إلى زيادة التكاليف عليها في كل شيء تقريبا. وفي صناعة الأدوية، تواجه الشركات قيودا على الأسعار لأول مرة في الولايات المتحدة، التي تعد أكبر أسواقها.
وبموجب أحدث اتفاقيات التسعير في المملكة المتحدة ـ التي تم الاتفاق عليها في عام 2019 ومن المقرر أن تنتهي هذا العام ـ إذا ارتفعت فاتورة خدمة الصحة الوطنية للأدوية أكثر من 2 في المائة سنويا، فإن على صناعة الأدوية أن تدفع الفرق. في حين أن البلدان الأخرى التي تحكمها اتفاقيات مشابهة تميل إلى مشاركة التكاليف الإضافية.
أدت الجائحة إلى نمو الطلب على الأدوية لعلاج المرضى المصابين بفيروس كوفيد-19 وغيرها من الحالات. لكن هذا ليس هو السبب الوحيد لارتفاع التكاليف: ارتفاع أسعار الأدوية الجديدة للسرطان والأمراض النادرة هي أيضا عوامل أخرى. مثلا، وافقت مؤسسة خدمة الصحة الوطنية على وصف علاجات معينة باهظة الثمن، لكنها تعطي نتائج كبيرة مثل دواء زولجينسما من شركة نوفارتيس، الذي يعالج ضمور العضلات الشوكي، وكذلك دواء أوركامبي الذي صنعته شركة التكنولوجيا الحيوية الأمريكية فيرتيكس لعلاج التليف الكيسي.
لكن في الواقع، حتى قبل الجائحة كانت حكومة المملكة المتحدة تتوقع ارتفاعا كبيرا في فاتورة الأدوية لخدمة الصحة الوطنية في عامي 2022 و2023، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنها كانت تأمل في زيادة المقدرة على الحصول على علاجات جديدة.
وفقا لريتشارد توربيت، الرئيس التنفيذي لاتحاد صناعة الأدوية البريطانية، توقعات الحكومة الأصلية كانت "غير واقعية" ودقتها ثبتت فقط عن طريق المصادفة بسبب الجائحة. أشار إلى أن المملكة المتحدة تنفق نسبة أقل من ناتجها المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية مقارنة بمعظم الدول الأخرى في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كما أنها تنفق قسما أصغر من ميزانية الرعاية الصحية على الأدوية.
في أماكن أخرى من أوروبا، تحاول الحكومات التحكم في الإنفاق على الأدوية بأساليب مشابهة، عبر عملية استرداد الأموال التي تم دفعها، والحد من ارتفاع الأسعار، وتقييم ما إذا كان الدواء ذا قيمة جيدة نسبة إلى ثمنه حيث يتم الحكم عليه من خلال إضافة أعوام من الحياة الجيدة، أو بمقارنته بالعلاجات الأخرى.
أخيرا، زادت ألمانيا الخصم الإلزامي الذي تتوقعه على سعر بيع الأدوية إلى 12 في المائة لعام 2023، وتخطط فرنسا لخفض ميزانية الإنفاق على الأدوية نحو 13 في المائة.
في الوقت نفسه، تجري في الولايات المتحدة أكبر عملية تغيير في الأسعار منذ عقود ـ تدفع الولايات المتحدة نحو 2.5 ضعف متوسط سعر الدواء مقارنة بما تدفعه مجموعة من 32 دولة، وفقا لمركز راند للأبحاث.
وبداية من العام المقبل، ستتمتع الحكومة الفيدرالية، للمرة الأولى، بصلاحية التفاوض حول أسعار بعض أكثر العلاجات تكلفة، التي يشتريها برنامد ميديكير، مخطط الرعاية الصحية للمتقاعدين الممول من دافعي الضرائب.
كما حددت سقفا سنويا يبلغ ألفي دولار للتكاليف "من الجيب" – النفقات التي يدفعها المرضى - للمستفيدين من برنامج ميديكير البالغ عددهم 64 مليونا، وقالت إنها ستغرم شركات صناعة الأدوية التي ترفع الأسعار فوق معدلات التضخم.
من جانبها، تقول شركات الأدوية الواقعة تحت الضغط في بعض أكبر أسواقها، إنها لن يكون أمامها خيار سوى خفض الاستثمار - والوظائف ذات الأجور الجيدة والنمو اللذين يحبهما السياسيون - إذا لم تتمكن من التوصل إلى اتفاقيات أفضل للأسعار.
قالت شركة إيلي ليلي إن تركيز أوروبا على خفض الإنفاق "يضر" بقدرتها على البحث والتطوير والتجارب السريرية وجذب استثمارات التصنيع. شركة باير التي يقع مقرها الرئيس في ألمانيا، أبلغت "فاينانشيال تايمز" أنها ستحول تركيز أعمالها الصيدلانية إلى الولايات المتحدة، متهمة أوروبا بأنها "مناوئة جدا للابتكار".
لكن مارك رودوين، أستاذ القانون في جامعة سوفولك في بوسطن، الذي كتب عددا من الأوراق البحثية حول أنظمة تسعير الأدوية، قال إن المعنيين في وزارة الصحة في المملكة المتحدة لا يرون أن هذه المسألة تشكل "مصدر قلق خطير"، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنه يمكن أن يكون منطقيا للشركات من الناحية المالية أن تجري أبحاثها في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
كويني، من الاتحاد الدولي لصناعة الأدوية الأساسية، قال ينبغي عدم رفض تحذيرات الصناعة على أنها "محض كلام". أشار إلى أن قرارات الاستثمار في البحث والتطوير مدفوعة بالقاعدة العلمية للبلد، بينما سياسة التسعير تؤثر في الاستثمار الكلي ـ أظهر تقرير حديث لمجموعة الصناعة الأوروبية اتساع الفجوة في الاستثمار في البحث والتطوير بين كل من الولايات المتحدة وأوروبا في الـ20 عاما الماضية، بينما أصبحت الصين قاعدة بديلة مهمة للأبحاث.
قال كويني: "الخيار لديك. لا يوجد علماء عظماء في الولايات المتحدة لا يستطيع أحد التفوق عليهم فحسب، ولكنك أيضا تحصل على عائد على الاستثمار في بيئة صعبة".
الصناعة تشعر بالقلق أيضا من انخفاض إنتاجية البحث والتطوير. وجدت شركة ديلويت أن متوسط تكلفة تطوير الأدوية ارتفع إلى 2.3 مليار دولار بحلول عام 2021، في حين أن متوسط ذروة المبيعات السنوية لكل عقار انخفض إلى 500 مليون دولار، وذلك استمرارا لاتجاه الانخفاض في العقد الماضي الذي توقف لفترة وجيزة فقط خلال ذروة الجائحة.
لكن من المتوقع أن ينمو إجمالي مبيعات الأدوية بمعدل سنوي يبلغ 6 في المائة بين عامي 2022 و2028، وفقا لشركة إيفاليويت فانتيج لأبحاث البيانات، كما تمتلك أكبر شركات الأدوية في العالم حاليا 1.4 تريليون دولار من القوة المالية لعقد الصفقات، بما في ذلك النقد والديون، وفقا لشركة إي واي.
قال رودوين إن التهديد الأكبر سيكون إذا توقفت شركات الأدوية عن بيع بعض أنواع الأدوية في أوروبا. حتى الآن، تم سحب الأدوية بشكل أساسي بعد أن أثارت السلطات الصحية الأوروبية تساؤلات حول ما إذا كانت قيمتها جيدة. في العام الماضي، سحبت شركة بلوبيرد بايو ـ مقرها بوسطن ـ دواء زينتيجلو من السوق الأوروبية، وهو علاج جيني أنتجته مرة واحدة لعلاج اضطراب الدم بيتا ثلاسيميا، بعد فشلها في إقناع الحكومة الألمانية بتغطية سعره البالغ 1.8 مليون دولار. أطلقت الشركة العقار نفسه أخيرا في الولايات المتحدة مقابل 2.8 مليون دولار.
أندرو أوبنشاين، الرئيس التنفيذي لشركة بلوبيرد، أشار إلى أن الدافعين الأوروبيين ما زالوا يفكرون في الأسعار كما لو أن جميع المرضى يحتاجون إلى وصفات متكررة للأمراض المزمنة.
قال لـ"فاينانشيال تايمز": "لقد انتهى الأمر بإجراء مفاوضات عكست حقا مفاوضات أسعار الأدوية التاريخية فقط وليس انعكاسا لقيمة العلاجات. لذلك كان ما حدث مخيبا جدا للآمال".
عندما تذهب السلطات الصحية الأوروبية إلى المفاوضات، سيتعين عليها أن تتصالح مع صناعة الأدوية التي لم تعد تركز على إنتاج أقراص الأدوية التي يتناولها الناس بصورة يومية.
وبينما اعتاد صانعو الأدوية على تحقيق قليل من المكاسب من كل مريض في سوق كبيرة، فإنهم يركزون بشكل متزايد على فرض مزيد من الرسوم على مجموعات فرعية صغيرة من المرضى، كالمصابين بأمراض نادرة، أو في قسم الأورام، مع وجود طفرة معينة في الورم الذي يحملونه.
في المقابل، الحكومات لا تمنح أنظمتها الصحية مزيدا من الأموال للتعامل مع هذا التغيير.
قال أليستير ماكغواير، رئيس قسم السياسة الصحية في كلية لندن للاقتصاد، إن الدول الأوروبية شددت سياساتها بسبب الأسعار المرتفعة. "كانت معدلات النمو في الأسعار، خاصة بالنسبة إلى أدوية الأورام ملحوظة للغاية. لقد ارتفعت في فترة زمنية قصيرة جدا".
قالت وزارة الصحة البريطانية إنها حققت عددا قياسيا من اتفاقيات الوصول بموجب الاتفاق الطوعي الأخير، وهي منفتحة على الأفكار حول كيفية عمل الخطة الجديدة. وكانت الصناعة قد طرحت نماذج جديدة، مثل الدفع فقط إذا نجح العلاج، أو دفع رسوم ثابتة لأي قدر مطلوب من الدواء.
اعترف توربيت، من رابطة صناعة الأدوية البريطانية، بأن من الصعب على أي شخص أن يخطط للابتكار. قال: "مشكلة القطاع العام أو أي شخص يضع الميزانية، أنهم يقولون فجأة يمكننا أن نفعل شيئا للمرضى لم نتمكن من فعله من قبل. لكن يجب علينا أن نجد المال لذلك".