Author

الانطلاق على قاعدة الامتنان

|

ننعم في حياتنا بنعم كثيرة بداية من الأساسيات إلى الكماليات التي نختلف بقدراتنا ورغباتنا في الوصول إليها. وليس هناك أجمل من الامتنان تقديرا لهذه النعم، شاكرين للمولى ثم راضين ومعترفين بما يتاح لنا منها. لكن فكرة الشعور بالامتنان أعظم من ذلك، فهي لا تنحصر فقط في مشاعر الشكر والاعتراف بالفضل، لكنها مدخل للإيجابية وشعور مؤثر في مستقبل من يشعر به. لذا، تشكل الفواصل الزمنية مثل بدايات ونهايات الأعوام - هجرية كانت أو ميلادية أو حتى تاريخ ميلاد الشخص - أفضل الفرص لتجديد وتحديث وتعزيز الشعور بالامتنان، وهذا من أفضل المداخل لبدء يوم جديد مختلف، أو لبدء عام جديد بإيجابية وقبول.
لو نظرنا للأمر من ناحية عملية، سنجد أن هناك دائما دعوة للتخطيط السنوي، على المستوى الشخصي والعملي. كل الكيانات، أفرادا أو منظمات، تخطط بطريقة معينة للمستقبل، بعضهم ينجح بها وبعضهم يخطط بطريقة فاشلة لا تؤثر في أدائه. ربط التخطيط بالأهداف قائم على الإحاطة بالإمكانات والاحتياجات. هناك دائما نقطة ضبابية نخدع فيها أنفسنا حول ما نعتقد بأننا نستحقه ولا نملكه، أو بأننا طلبناه ومنعه غيرنا عنا، أو بأن ظروفنا وحسابات الاحتمالات والقدر تضعنا في خانة قليلي الحظ. يختلط هنا التحيز مع الجهل والسلبية وتصنع لنا عائقا كبيرا يمنع المضي قدما. تحرير هذا العائق يتطلب انفتاحية كبيرة جدا، الامتنان هو المدخل والمجدد لهذه الانفتاحية.
الشعور بالامتنان ليس مجرد وسيلة للتعبير للآخرين تقديرا لجهودهم أو أفضالهم، وليس إحساسا مرحليا لتهدئة المواقف وتجاوز الأزمات والمحن. الشعور بالامتنان إحساس عميق قابل للتطبيق والتطوير وتعزيز الاستفادة منه. الشعور بالامتنان وربطه بالأفعال والتجارب ونتائج التصرفات يجعلنا أكثر دراية بالمسببات وأكثر إحاطة بالظروف. الشعور بالامتنان يفتح الباب للتعلم من الأخطاء، مدخل لقبول الواقع الذي نتهرب منه. الشعور بالامتنان على مستوى النشاط والفعل والعمل يحفز التفكر من زوايا جديدة ومختلفة تفتح آفاقا مختلفة لما نعرف، ويرفع من احتمالية استكشاف ما لا نعرف. الشعور بالامتنان يعظم قيمة ما نعرف في بحر ما نجهل، ويفتح المسارات لتعلم الجديد ومواجهة الخافي وغير المعلوم.
عندما يبدأ العام الجديد، جل ما يحتاجه الشخص هو التفاؤل. فهو ما يمنحنا القدرة على التعبير عن احتياجاتنا ورغباتنا، وهو ما يجعلنا نتعامل بجدية مع الطموحات والخطط، وهو ما يحفز التنفيذ وسبر أغوار المصاعب والتحديات. لكن التفاؤل لا يخرج من العدم، بل يرتبط بما قبله، وتحديدا، يرتبط بطريقة نظرتنا لما حصل لنا سابقا وواجهناه، يرتبط بما تعبنا معه وبما سعدنا معه. وهذا الإحساس الانتقالي التفسيري الرابط بين الواقع والماضي إن حصل بشكل إيجابي رابطا بين الماضي والمستقبل يسمى الامتنان، وإن حصل بشكل سلبي يصبح جحودا وهوانا ويأسا. وللعاقل النظر في قدرته على التخطيط وفي قدرته على تحفيز الذات، إن أنهى عامه بالامتنان أو أنهاه بالجحود.
ولأننا ننشغل عن هذه الوقفة، لربما قلل البعض من أهميتها. لكن هذا التفرغ الذهني ضروري لمسألة مهمة. هي ليست خطوات روحية أو جلسات صوفية يحصل بها رقي فكري مدعى. على العكس تماما، هي فكر عملي لسلوك حقيقي مؤثر ومهم. من يتوقف من وقت لآخر ويضع فواصل المراجعة والفهم والامتنان بين المراحل الزمنية ومراحل الإنجاز والفشل، يمضي قدما وهو أقوى وأقدر وأسعد. ومن لا يقوم بذلك – وينطلق دون امتنان - يزيد من هشاشته العملية والفكرية من حيث لا يعلم، إذا لا يمنح نفسه ما تستحق من قدراته. ويسمح بذلك للمشاعر السلبية بأن تؤثر فيه، فاتحا الثغرات للنتائج غير المرضية، وعاجزا عن تصور الرضا والسعادة حتى وإن قام بالإنجاز، وهذا فقد للمعنى وفقد لفرصة الاستفادة من الامتنان بمعناه الأعم.

إنشرها