"افرح يا قلبي".. شباب أضاع هويته على أعتاب وطن ممزق
من أغنية أم كلثوم "افرح يا قلبي"، تقطف الروائية اللبنانية علوية صبح عنوان روايتها الجديدة، الصادرة عن دار الآداب، وتأخذنا في رحلة فيها من الواقعية الكثير، إلى عالم يشبهنا، ونشكل جزءا من تفاصيله القاتلة. تقرأ شخصياتها فكأنك تقرأ نفسك، أبطالها نعرفهم، موجودون على مقربة منا، في المنزل والحي والمدرسة، وفي كل ركن من أركان لبنان المبعثر، شخصيات كلما تعمقنا في تفاصيلها شعرنا بمدى تقاربنا إليها، نقلب صفحات الرواية كأننا نستمع إلى حديث جارة تروي مشكلات ابنها المغترب وزوجها الظالم، ونشعر بآلام أم أغلقت الأبواب في وجه أبنائها، فضاعوا بين رحاب الكون، يبحثون عن هوية وانتماء، أجسادهم في لبنان، وأرواحهم هائمة خارج وجودها المكاني والعاطفي. إنها لعنة الانتماء المستحيل، تتجلى في فصول الرواية التي تشكل حالة تشبه كثيرا من الحالات في عالمنا العربي وليس فقط في لبنان، علوية صبح تعكس تشرذم الواقع اللبناني، إنها تبحث عن عمق التجذر ومشقة الاغتراب عن وطن بديل.
العائلة المشرذمة
أبطال رواية "افرح يا قلبي" عاجزون عن تحديد البوصلة وتصويب الاتجاه، ستة رجال، هم إخوة بالاسم وملاكمون بالفعل، تجمع بينهم تناقضات الكيان البشري، محكومون بالشر وتحركهم لعنة الانتماء إلى أسرة فيها انكسار وقسوة وضياع. بين الأب القاسي والمتعجرف والمتسلط والبخيل حتى بمشاعره والأم المنكسرة الراضخة التي تنفذ ولا تعترض، ينشأ ستة إخوة، مختلفون في كل شيء، لا يجمع بينهم سوى أرضية هشة تتآكلها الندوبات، ويحركها احتقان دائم، وكأنها على فوهة بركان قابلة للاشتعال في أي لحظة. في غفلة تأخذنا علوية صبح إلى مقاربة سريعة تسقط فيها حال لبنان البلد الذي يئن من كثرة مشكلاته، وهذه الأسرة التي لا يجمع بينها سوى الاختلاف وتأججها نار الخلاف. مشهدية روائية تشكل مرآة تعكس جوهر دولة تحاول أن تكون وطنا.
الشخصيات
بعد أن يقوم عفيف بقتل شقيقه جمال على خلفية اختلاف عقائدي في وجهات النظر، تتبعثر الروابط بين شخصيات القصة، غسان الموسيقي وعازف العود، يهاجر إلى نيويورك هربا من الفاجعة التي ألمت بعائلته، حالما بهوية جديدة، رافضا جبروت أبيه وخياناته لأمه ومبتعدا عن نور، حبه الروحاني الأبدي، وباحثا عن حضن دافئ، يقع في حب كيرستن أستاذة مادة الصوفية، عاشقة الشرق وموسيقاه، التي تكبره سنا. وطارق مصور صحافي منتدب لتغطية المجازر، يحط أخيرا في باريس، تاركا بؤس عائلته وتشرذمها الذي لا ينتهي. أما سليم يعيش حالة من فقدان الهوية التام، نكران لكل ما هو حقيقي في عالمه، يشعر بكونه امرأة ولا يجرؤ على البوح بما في داخله، يعيش انقسام أليم بين واقع يتخبط به وحقيقة ترفض وجوده، أما محمود فهو صورة مصغرة عن والده، يحب جيهان ويصر على الزواج بها، لكنه يحمل في أعماقه جينات سي السيد المتحكم، ويريد أن يرى صورة والديه داخل جدران منزله، ويلعب دائما دور الأب الذي لا يرحم والباحث عن الزوجة المستلمة والخاضعة، يجسد نسخة رديئة عن رجولية مشوهة.
المرأة المكسورة
تمثل صورة الأم في رواية "افرح يا قلبي"، نموذجا حقيقيا ومؤلما لنساء اخترن عدم الخروج من تحت عباءة الرجل، حتى لو كان ظالما، وتربي أولادها على هذه العقلية حتى لو كانت رافضة لها، ويتجلى ذلك في المشهدية التي تنقلها لنا علوية صبح، تصور لنا غسان حين يقرر الهجرة والابتعاد، وكيف تتآكله الأفكار حول مصير عائلته المشتتة، هو الذي ترك وراءه الموت والدمار وعائلة تشبه وطنه بحروبها الصغيرة المدمرة، وكيف اختار ملاذه الآمن، الموسيقى، تلك اللحظة التي يهرب فيها من عالمه ومن صورة والدته المكسورة ليرتمي بين أحضان عود جده يدندن ويتعلم.
طوال الطريق لم تغب نظرات أمه عن عينيه لحظة فارقها، وحاصرته وجوه إخوته. توتر وفكر كيف سيرتبون كراهيتهم بعضهم بعضا وصراعاتهم، وكيف ستخفي أمه دموعها بالسر في أكمامها ومحارمها، أو بين أصابعها التي كسرها والده يوما.
يحاول أن يبتعد عن تلك الصورة الراسخة في ذاكرته، وبينما يكون معلقا بين الأرض والسماء، تحاكيه تساؤولات عن هويته ومصيره، ولكيلا يقع فريسة أفكاره ونشأته المشوهة يقرر أن ينتمي إلى الموسيقى، علها تخفف من تشتته ويسلم نفسه إلى هذا الكون الشاسع تاركا خلفه أسئلة لا إجابات واضحة لها.
صورة الأب النمطية
يحدث الأب بجبروته والأم بسلوكياتها الخانعة، في الإخوة الستة تأثيرا مدويا، يزيد من عصفه تشنج المزاج العام واضطراباته. ينشأ الشبان بين نقيضين في صورة الأب المجرد من العطف، الانتشاء بأغنيات أم كلثوم وأمسيات السهر، والإفراط في الصرامة وتعنيف الأم، مع بخل في التعبير للأولاد عن الحب، تنجم عنه ترسبات تحكم العلاقة المتلبدة حيال الذات والآخر. أما الأم فهي اختزال المرأة المسحوقة، تعض على الجرح، تبرر أفعال الزوج، ولا تشكو. انمحاؤها يغرس في الأبناء أسى أبديا، يكسر الصورة الصحيحة للمرأة، فيتيهون في عوالم النساء يبحثون فيه عن صورة يرفضونها لكنها الصورة الوحيدة الراسخة في عقولهم، المرأة الضعيفة والرجل المتسلط.
غسان والحب
أحب غسان الموسيقى منذ صغره، وكان شغوفا بالعزف على العود كجده، الذي كان يلجأ إليه كلما اشتدت ريح الخلافات بين والديه، أحب نور حبا عذريا، وكانت ملاذه الآمن، يرى فيها صورة المرأة التي يتمنى، لكنه حين عاد من غربته بعد 25 عاما، ولأن والده كسر صورة المرأة في داخله، لم يجد فيها الملجأ الذي كان يبحث عنه. أحدثت صورة الأم حفرا في مساحات النساء في حياته، فامتدت يدها لترسم أشكالهن وتحدد مبررات الميل إلى واحدة دون أخرى، ولم ينجح في التخلص من خصال أبيه الذي اعتاد خيانة والدته، وهذا التشرذم في شخصيته انعكس على زواجه من امرأتين متناقضتين، الأولى أمريكية في سن والدته، والأخرى لبنانية في سن ابنته، وكأنه فشل في نزع ملامح الفوضى من شخصيته، فوضبها معه ضمن حقائبه، وكأنه يدفع بها ضريبة مجتمع بكامله، ويحاكم على ذنب عائلة لم يختر الولادة فيها، وأرض لم تتسع لوجوده فهاجر بحثا عن سواها.
لبنان بطل الرواية الحقيقي
كلما أمعنا القراءة في رواية علوية صبح "افرح يا قلبي"، يأخذنا إسقاطها لشخصية غسان وإخوته والعائلة المشرذمة إلى واقع البلد الحقيقي، كأنها تتحدث بألسنة شخصياتها عن لبنان الوطن الذي يقودنا إليه انتماء أعمى وهوية لا ملامح لها. يحضر لبنان بتعافيه وأمراضه، بمجده وانتماءاته. الأب والأم المتناحران دائما، والإخوة الأعداء، المختلفون في كل شيء، لا يجمعهما حوار ولا تربطهم مصالح، مشهدية تنقل بوجه آخر صورة نمطية لبلد لا نعرف كيف يقف لكنه موجود، تنخر فيه المشكلات وتعبث فيه الأحقاد ولا يزال قادرا على العيش.. تحاول صبح أن ترسم بحروف الكلمات صورة محملة بآلام شخصياتها، سردها يدل على قواسم مشتركة في الانقسام الوجودي. تبحر بهم ومعهم إلى أصقاع العالم، باحثة عن طوق نجاة لأسرة "وطن"، لا يجمع بين أضدادها شيء، تقوم على الانقسام والتشرذم وتنقل واقعا ملموسا نعيشه في تفاصيلنا اليومية قبل أن نقرأه على ألسنة شخصياتها.