جوهر الثقة «2»

الطبيعة غير المركزية التي تتسم بها العملات المشفرة تعني أنها تعتمد على تحفيز الجهات غير معلومة الهوية التي تتحقق منها لتأكيد المعاملات في صورة رسوم وريع. ويفضي هذا الأمر إلى الاختناق ويحول دون إمكانية التوسع. فعلى سبيل المثال، عندما تقترب شبكة "إثيريوم"، "وهي إحدى تقنيات بلوكتشين واسعة الاستخدام في تطبيقات التمويل غير المركزي"، من الحدود المسموح بها لمعاملاتها، ترتفع الرسوم أضعافا مضاعفة. ونتيجة لذلك، على مدار العامين الماضيين، تحول المستخدمون إلى تقنيات بلوكتشين أخرى، ما أسفر عن زيادة التشتت في مشهد التمويل غير المركزي. وتحول هذه السمة الكامنة دون استخدامها على نطاق واسع.
وبسبب هذه العيوب تفتقر العملة المشفرة إلى الاستقرار والكفاءة. فهذا القطاع يفتقر كثيرا إلى التنظيم، ولا يخضع المشاركون فيه لمساءلة المجتمع. وأدى تكرار حالات الاحتيال والسرقة والخداع إلى إثارة مخاوف خطيرة بشأن نزاهة السوق. وقد أتاحت العملة المشفرة المجال أمامنا لاستكشاف إمكانات الابتكار، ومع هذا، يجب وضع أكثر عناصرها فائدة على أساس أصح. وباعتماد قدرات فنية جديدة مع البناء على جوهر الثقة يمكن لنقود البنوك المركزية أن تشكل أساسا لبناء منظومة نقدية غنية ومتنوعة يمكن توسيعها وتصميمها مع أخذ المصلحة العامة في الحسبان.
تتبوأ البنوك المركزية مكانة متميزة تمكنها من توفير جوهر هذه الثقة نظرا إلى الأدوار الرئيسة التي تقوم بها في النظام النقدي، فيأتي أولا دورها كجهات إصدار العملة السيادية. ثانيا، تأتي مهمتها المتمثلة في توفير الوسائل لإنجاز عملية الدفع بشكل نهائي. وتتولى البنوك المركزية كذلك مسؤولية تيسير أداء نظم الدفع وضمان نزاهتها من خلال قواعد تنظيم خدمات القطاع الخاص والرقابة عليها.
وإذا كان النظام النقدي على هيئة شجرة، فالبنك المركزي هو جذعها الثابت وفروعها هي البنوك وغيرها من جهات تقديم الخدمة من القطاع الخاص، التي تتنافس لتقديم الخدمات للأسر والشركات، والسلع العامة التي تقدمها البنوك المركزية تدعم الخدمات المبتكرة لمساندة الاقتصادي الرقمي، وأساس هذا النظام هو التسوية في الميزانية العمومية للبنك المركزي.
وبإلقاء نظرة من بعد يمكننا أن نرى النظام النقدي العالمي كغابة في حالة سليمة. وتحت ظلال الأشجار، تجتمع الفروع معا وتسمح بالتكامل الاقتصادي عبر الحدود.
فكيف يمكن تحقيق هذه الرؤية؟ سيحتاج الأمر إلى بنية تحتية عامة جديدة على مستويات مدفوعات الجملة والتجزئة وعبر الحدود.
فأولا، عملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات الجملة ـ وتشكل مستوى أعلى في تمثيل نقود البنوك المركزية التي يقتصر استخدامها حصرا على البنوك والمؤسسات الأخرى الموثوق بها ـ يمكن أن تتيح إمكانات فنية جديدة. ويتضمن ذلك قابلية البرمجة والتركيب والترميز المذكورة آنفا. ومن شأن عملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات الجملة أن تطلق إمكانات هائلة للابتكار الذي يعود بالمنفعة على المستخدمين النهائيين. فعلى سبيل المثال، يستطيع مشتري منزل وبائعه أن يتفقا في البداية على أن الدفع بالترميز وكذلك تحويل الملكية بالترميز يجب أن يكونا متزامنين. وفي الخلفية، تتم تسوية هذه التحويلات بعملة البنك المركزي الرقمية لمدفوعات الجملة كمعاملة واحدة.
ويبرز ذلك من خلال الجهود العملية التي تبذلها البنوك المركزية فضلا عن تطبيقات أخرى كثيرة.
ثانيا، على مستوى مدفوعات التجزئة، تنطوي عملات البنوك المركزية الرقمية على إمكانات هائلة، جنبا إلى جنب مع أبناء عمومتها، كنظم دفع سريعة. وستؤدي عملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات التجزئة دور النقود الرقمية المتاحة للأسر والشركات، بينما الشركات الخاصة هي التي تقدم هذه الخدمات. وهناك أوجه تشابه بين نظم الدفع السريع لمعاملات التجزئة التي تشغلها البنوك المركزية وعملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات التجزئة، من حيث إتاحة هذه المنصة المشتركة مع ضمان الترابط التام بين الخدمات. ويبشر كلاهما بانخفاض تكاليف أداء المدفوعات وتمكين الشمول المالي. فاعتمد ثلثا البرازيليين البالغون نظام Pix في البرازيل خلال فترة لا تزيد على عام واحد. ولا يزيد الرسم الذي يدفعه التجار على 0.2 في المائة من قيمة المعاملة في المتوسط، أي: عشر تكلفة الدفع ببطاقة الائتمان. ويعمل كثير من البنوك المركزية في الوقت الحالي على وضع تصاميم تحقق شمول عملات البنوك المركزية الرقمية لمدفوعات التجزئة من أجل تقديم خدمة أفضل لغير المستفيدين من الخدمات المصرفية .
ختاما، تستطيع البنوك المركزية على المستوى العالمي الربط بين عملاتها الرقمية لمدفوعات الجملة معا، كي تسمح للبنوك ومقدمي خدمة المدفوعات بتنفيذ المعاملات مباشرة مستخدمة نقود البنوك المركزية بعملات متعددة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال ما يطلق عليه تكنولوجيا دفاتر الحسابات الرقمية الموزعة التي تحتاج إلى ترخيص وتقتصر على أطراف موثوق بها. ويتضح من العمل الذي يقوم به مركز الابتكار التابع لبنك التسويات الدولية بالتعاون مع عشرة بنوك مركزية أن هذه الترتيبات يمكنها تنفيذ المدفوعات عبر الحدود بوتيرة أسرع وتكلفة أقل وبمستوى شفافية أعلى ، وهذا الأمر من شأنه مساعدة المهاجرين على تحمل تكاليف أقل مقابل تحويلاتهم، كما تتيح زيادة التجارة الإلكترونية عبر الحدود ودعم سلاسل القيمة العالمية المعقدة.
وتبشر وسائل التكنولوجيا الرقمية بمستقبل براق للنظام النقدي وباعتماد جوهر الثقة الذي توفره نقود البنوك المركزية يمكن للقطاع الخاص تبني أفضل التكنولوجيات الحديثة، لتعزيز إمكانات الوصول إلى منظومة نقدية غنية ومتنوعة. وفوق ذلك كله، يجب أن تكون احتياجات المستخدمين في مقدمة ابتكارات القطاع الخاص، تماما مثلما يجب أن تكون المصلحة العامة هي الشغل الشاغل للبنوك المركزية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي