أزمة «بريكست» متمددة

"لا يمكن لأي حكومة التحكم في الأسواق. لا ينبغي لأي وزير مالية السعي إلى تحقيق ذلك"
جيرمي هانت، وزير مالية بريطانيا
فجأة صار وزير الصحة والخارجية السابق جيرمي هانت، أقوى شخصية في بريطانيا. تلقى اتصالا من رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، تطلب منه تولي وزارة الخزانة، خلفا لصديقها المطرود كواسي كوارتينج. هانت قبل المهمة، بينما دخلت تراس ساعاتها الأخيرة في الحكم التي لم تظل فيه سوى 44 يوما. كان لا بد من شخصية تضبط الاقتصاد البريطاني، الذي شهد اضطرابا بسبب ميزانية تراس المتضمنة تخفيضا هائلا للضرائب عن طريق الاقتراض الحكومي. هذا الاضطراب أدى إلى تخفيض تصنيف بريطانيا الائتماني فعلا. لكن ليس بإمكان وزير المالية حل الأزمة الاقتصادية في وقت قريب، وإن نجح بسرعة في استعادة ثقة السوق بالحكومة. فالسوق ارتعدت من ميزانية أقل وصف لها أنها "انتحارية". وهي كذلك بالفعل لأنها قضت على المستقبل السياسي لرئيسة وزراء دخلت التاريخ كأول حاكم يخدم أقصر مدة في تاريخ البلاد.
الأزمة الاقتصادية في بريطانيا ليست حكرا عليها ضمن منظومة العالم الغربي. فهي تشمل الجميع، لكن في حالة المملكة المتحدة هناك عوامل لا دخل لمسار الاقتصاد العالمي المضطرب فيها. في مقدمتها الانعكاسات السلبية الكبيرة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" على البلاد. يقول حاكم بنك إنجلترا المركزي مارك كارني، إن "بريكست" كان السبب الرئيس وراء اضطرار البنك قبل أيام لزيادة الفائدة، في ضمن محاولاته لاحتواء ارتفاع معدل التضخم. هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها كارني بهذه الصراحة، والسبب معروف، فقد ترك منصبه في 2020، وهو الآن يستطيع أن يعبر عما يعتقده حقيقة بعيدا عن قيود المنصب وتبعات السياسة، وإشكالات السوق.
بنك إنجلترا المركزي رفع "كما كان متوقعا" الفائدة لتصل إلى 3 في المائة، في أعلى مستوى لها منذ ثلاثة عقود. وربما ستصل في غضون العام المقبل إلى 5 في المائة، على اعتبار أنها "السلاح" الوحيد لمواجهة التضخم. وإذا كانت الرياح الاقتصادية المعاكسة تضرب دول الغرب عموما، فإنها بلغت أعلى حدة في بريطانيا. فتبعات خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، التي أسفرت عن قلة العاملين في كل القطاعات دون استثناء واحد، إلى جانب ارتفاع أسعار الطاقة، لم تبطئ وتيرة النمو فحسب، بل زادت من سرعة دخول الاقتصاد المحلي في مرحلة من الركود، أكد البنك المركزي في بريطانيا أنها قد تستمر إلى 2024. ما يعني أن مسار الفائدة سيواصل التصاعد، والضغوط الحياتية في البلاد ستتواصل بأشكال أكثر تطرفا، بما في ذلك إمكانية ارتفاع عدد أولئك الذين سيخسرون منازلهم بسبب الفائدة المرتفعة.
على وزير المالية جيرمي هانت، أن يجد قبل نهاية الشهر الجاري مصدرا لسد النقص في الميزانية العامة يصل إلى 35 مليار جنيه استرليني. فالبكاء على "أطلال" انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي ليس مفيدا الآن ولا في أي وقت آخر، علما بأن هانت نفسه كان من المعسكر المعادي لـ"بريكست". ما سيفعل لجلب هذه الأموال، ليس أمامه سوى رفع الضريبة الراهنة على الشركات التي تبلغ 25 في المائة إلى 30 في المائة. فهو لا يمكنه رفع ضرائب الدخل على الأفراد الذين يتلقون أساسا معونات حكومية بسبب آثار جائحة كورونا والارتفاع الجنوني المستمر لأسعار المستهلكين. لكن حتى هذا لن يحل المشكلة تماما. فهو لا بد أن يقترب من خفض الإنفاق العام، الذي سيرفع من معدلات الغضب الشعبي على الحكومة المحافظة التي شهدت تغيير أربعة وزراء مالية في أربعة أشهر، وخمسة رؤساء وزراء في ستة أعوام!
واللافت، أن رفع الضرائب ليس من "شيم" حزب المحافظين، بل هو مربوط تاريخيا بحزب العمال، إلا أن الوضع وخطورته ضرب حتى المبادئ التي يقوم عليها الحزب. فالبلاد تحتاج إلى أن تسد العجز في ميزانيتها، وأن تحافظ على المستوى الحالي لديونها دون زيادة مهما كانت المبررات. فهذه الديون بلغت أكثر قليلا من حجم الناتج المحلي الإجمالي، يضاف إلى ذلك أن الموارد الراهنة لخامس أكبر اقتصاد في العالم، أصابها الوهن، باعتراف حتى أولئك الذين كانوا مؤيدين شرسين لـ"بريكست"، بسبب الفجوات التشغيلية الرهيبة، ما خفض الإنتاج وتباطأ النمو، إلى أن باتت مرحلة الركود تلوح في الأفق. أضف إلى ذلك، أن بريطانيا لم تشهد منذ عقود عدم استقرار سياسي كهذا الذي حصل في الأشهر القليلة الماضية، وهو ما رفع من مخاوف السوق.
في الأزمات المبادئ تتغير، وإن لم تتبدل فإنها "تؤجل" ربما إلى حين ميسرة. لكن الانفراج على الساحة البريطانية سيأتي متأخرا بعض الشيء مقارنة بالساحات الغربية الأخرى، ولا سيما الأوروبية. هذه الأخيرة تشهد ضغوطا فوق أخرى بالطبع، لكن الدول فيها تعمل مجتمعة للإبقاء ما أمكن من الاستقرار الاقتصادي، وشهدت في السابق أزمات مشابهة تمكنت من احتوائها. في بريطانيا اليوم توجد حكومة غير منتخبة مباشرة، وهي مهددة بانتخابات عامة مبكرة ربما تجري العام المقبل، ما يضيف مزيد ظلام إلى المشهد الاقتصادي العام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي