نظام البيعة .. فصل في الإجماع السياسي الإنساني

نظام البيعة .. فصل في الإجماع السياسي الإنساني

يتحاشى تيار عريض في العالم العربي، أي حديث عن المؤسسات والنظم التقليدية في الرياسة والتدبير، وذلك خشية إسقاط وصف التنويري أو الحداثي عنه، بدعوى استعادته لممارسات ضاربة في الأصالة والقدم في زمن صارت فيه الديمقراطية سيدة أنظمة الحكم، وتراوحت فيه نظريات الفلسفة السياسية بين قيم الحداثة ورؤى ما بعد الحداثة.
يعد مفهوم البيعة من زمرة هذه المفاهيم التي يكف كثيرون عن الإتيان على ذكرها، في معرض الحديث عن أنماط الحكم والسيادة، باعتبارها نظاما تقليدانيا أثيلا، لا يستقيم حشره مع أحدث الرؤى والتأصيلات الفكرية حول كيفيات القيادة وأساليب التدبير في الحقبة المعاصرة. وذهبت ثلة من المتفيهقين إلى القول، جهلا وإنكارا، إن اعتماد الدول مثل هذه الأساليب سبب وراء تعطيل مسيرة التقدم، وعرقلة عجلة التنمية.
وجب التأكيد، في البداية، بأن أغلب كتب التاريخ، تجمع على أن نظام البيعة آلية قديمة لتولي السلطة، مارستها جميع شعوب العالم، بطرق وأشكال مختلفة، في الشرق كما في الغرب لا فارق، من خلال مبايعة الوريث داخل الأسرة الحاكمة، ولم يستثن من ذلك سوى اليونانيين الذين مارسوا ديمقراطية على المقاس في بعض الفترات من تاريخهم الطويل.
لغويا، اشتق المصطلح من فعل "باع"، وهو واحد من المشتركات اللغوية التي تدل على النقيضين، فمن معانيه البيع وكذا الشراء معا. يصير الفعل "بايع"، بعد إدخال ألف المشاركة عليه، للدلالة على التفاعل بين الطرفين المتبايعين، المبايع والمبايع. بهذا تصبح البيعة بين طرفيها تعاقدا والتزاما، وفي ذلك يقول ابن منظور، "البيعة: الصفقة... والبيعة المبايعة والطاعة والولاء".
تكاد الكتابات حول البيعة تجمع على حضور صفة التعاقد والتعاهد، بشكل ضمني، في المفهوم، نقرأ في موسوعة "صبح الأعشى لصناعة الإنشا" للمؤرخ أبي العباس القلقشندي قوله، "البيعات جمع بيعة، وهي مصدر بايع فلان الخليفة يبايعه مبايعة. ومعناها المعاقدة والمعاهدة. وهي مشبهة بالبيع الحقيقي". ويذهب ابن الأثير الجزري، في كتاب "النهاية في غريب الحديث والأثر" إلى القول، "كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه. أعطاه خالصة نفسه وطاعته، ودخيلة أمره. ويقال بايعه وأعطاه صفقة يده. والأصل في ذلك أنه كان من عادة العرب أنه إذا تبايع اثنان صفق أحدهما بيده على يد صاحبه". ويضيف عبدالرحمن ابن خلدون مزيدا من الشروحات في كتاب المقدمة، بقوله، "اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، يطيعه في كل ما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره".
البيعة إذن مصدر السلطة التي يتولاها الملك أو السلطان أو الحاكم، وهي القوة التي يستمدها من الأمة، فعلى أساسها ينعقد الأمر للإمام لمباشرة السلطة على عموم أهل المنطقة المبايعة، ويصير أهلا لاختيار وتعيين من يساعده على تدبير مرافق الدولة من ولاة وقضاة... وجبت الإشارة هنا إلى أن تفويض الأمة هذا لا يكون بشكل مباشر، وإنما من خلال مبايعة أهل الحل والعقد للسلطان.
يعترض المتحفظون على البيعة على هذه المسألة، أي إسناد الأمر إلى هيئة بدل توليه من قبل العامة. وهنا وجب التأكيد أن نظام البيعة إبداع بشري خلاق لإدارة شؤون البلاد والعباد، استجاب ولا يزال لحاجيات الشعوب والمجتمعات، على غرار الديمقراطية التي يصر هؤلاء وغيرهم إصرارا على استيرادها، وكأنها قوالب جاهزة، دون مراعاة للثقافة والتاريخ والواقع الاجتماعي.
ثم ألا تعد هيئة "أهل الحل والعقد" التي تبايع السلطان نظير البرلمان الذي يختار الرئيس، في بعض الأنظمة الديمقراطية، فما أكثر الدول التي ينتخب فيها الرئيس اليوم بالاقتراع غير المباشر، عن طريق إسناد المهمة إلى أعضاء البرلمان، بدل الاقتراع المباشر من عامة المواطنين.
تبقى هذه التأويلات غير مقنعة للمعارضين، فالبيعة في نظرهم تعبير عن الصوت الواحد والثقافة الواحدة وحكم الفرد. ما من شك أن هؤلاء وغيرهم يتحدثون عن الديمقراطية كفكرة مثالية لا كممارسة عملية، وإلا أي تفسير يمكن تقديمه لما جرى في الولايات المتحدة ذات النظام الديمقراطي، خلال فترة حكم الرئيس دونالد ترمب، وقبله مع الرئيس جورج بوش الابن، أكانت البلاد فعلا محكومة بمنظومة "سيستم" أم فرد.
ارتباطا بما سبق، وجب التذكير بموقف مشرق للمفكر المغربي الراحل علال الفاسي يقول فيه، "ونحن نرى في هذه العبارات العتيقة معنى يتفق وروح ميثاق حقوق الإنسان الفرنسية الذي ينص على أن السيادة كامنة في الشعب"، وسنده في ذلك تلك التجربة التاريخية الفريدة في المغرب حين قام أهل الحل والعقد - فيما يشبه اليوم في الديمقراطيات ملتمس سحب الثقة- بخلع السلطان 18 من سلالة العلويين مولاي عبدالعزيز بن الحسن "1894-1908"، ومبايعة أخيه السلطان مولاي عبدالحفيظ بن الحسن "1908-1912".
نظام البيعة منتقد - من المستلبين للمركزية الغربية - لأنه إبداع عقل عربي مسلم، رغم نجاح الدول بوساطته في الحفاظ على وجودها أولا، ثم تحقيق الرفاهية والأمن والاستقرار لمواطنيها على غرار ما تحقق النظم الديمقراطية، وفي بعض الأحيان أفضل منها، وخير شاهد على ذلك الأحداث التي تهز كبرى العواصم الأوروبية بسبب مشكلات الطاقة. وتمكنت بفضله من الرقي تدريجيا نحو رأس قائمة الدول القوية والرائدة على الصعيد العالمي "مثلا دخول السعودية نادي العشرين".

الأكثر قراءة