Author

العلوم الإنسانية بين الإفراط والتفريط

|
تتهم العلوم الإنسانية والاجتماعية بعدم قابليتها للتجريب، وهذا الاتهام ليس حديثا، لكن الناس يتوارثونه جيلا بعد جيل، حتى قدر لعلماء النفس محاكاة التجارب في العلوم الطبيعية، وذلك بهدف التثبت والتوثق من النتائج التي يتم التوصل إليها، وتحقيق المصداقية فيها. ولا يزال البعض يعتقد استحالة ذلك، نظرا إلى صعوبة التحكم في الموقف التجريبي الذي يدخل فيه الإنسان لتعقيد السلوك، وتداخل المتغيرات العقلية والانفعالية والقيم، وفي هذا شيء من الصحة، إضافة إلى عدم تقبل الناس إجراء التجارب عليهم في السابق.
التجارب في العلوم الإنسانية، تكون في المختبر باستخدام الأجهزة، والأدوات التي تقيس الإدراك، وسرعة الاستجابة وشدتها، والتغيرات التي تطرأ على الفرد عندما يكون في موقف من المواقف. وما جهاز كشف الكذب إلا أحد الأمثلة على الأدوات التي ترصد ما يحدث من ارتباك، وردود فعل غير منطقية ممن يخضع للموقف عندما تطرح عليه مجموعة من الأسئلة المرتبطة بحادثة سرقة، أو قتل على سبيل المثال. كما تكون التجربة في الميدان، أو الحقل، سواء في الوضع الطبيعي، ودون ترتيبات مسبقة، مثل إطلاق صوت مفزع لمعرفة سلوك الناس وتصرفاتهم لتفادي أضرار مصدر الصوت، حتى وإن لم يكن ضارا، وقد تكون التجربة الحقلية بشيء من الترتيب من قبل الباحث، كأن يتفق مع مجموعة من الناس ليتصرفوا بشكل من الأشكال، لمعرفة هل تتم محاكاتهم من قبل الآخرين.
جايسيكيا فتاة أمريكية في مدينة نيويورك، أجرت تجربة ميدانية لمعرفة سلوك التحرش متى يحدث، فلبست ملابس غير لائقة، وسارت في الشوارع، وخلال سيرها بهذا الوضع تعرضت لكثير من عمليات التحرش من عدة رجال. وفي يوم آخر، غيرت لباسها إلى لبس محتشم، بل لباس إسلامي، وسارت في الشوارع، فلم تتعرض لأي محاولة تحرش على الإطلاق، ما يعني أن المظهر الخارجي يحدث لدى الرائي رد فعل يتناسب مع طبيعة اللباس، فإما أن يكون مغريا للرجل، ويتشجع على التحرش، أو يكون العكس مع من تلبس الحشمة والعفاف، فلا يجد الشجاعة على الاقتراب والتحرش، إنما الاحترام.
إذا كانت التجارب في العلوم الطبيعية هدفها اكتشاف خصائص الأشياء، والتغيرات التي تطرأ عليها نتيجة التفاعل بين المتغيرات، كتمدد المعادن عند تعرضها للحرارة، أو ما ينتج عند خلط عنصرين بمقادير مختلفة، وفي هذا اكتشاف للقوانين، والنظريات التي تسهل إنتاج وتصنيع البضائع والاحتياجات، بأنواع وألوان وأحجام ومذاقات مختلفة، تتناسب مع احتياجات الناس وظروفهم، فإن التجارب في العلوم الإنسانية هدفها اكتشاف قوانين السلوك البشري، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. إذ كشفت الدراسات التجريبية أن سلوك الفرد يختلف عندما يكون بمفرده، عنه عندما يكون وسط مجموعة، ويختلف عندما يكون مع مجموعة مألوفة له عن سلوكه عندما يكون مع مجموعة غريبة عليه. فالانفتاح والتخوف والتردد، أو الثقة بالنفس، ستكون واضحة باختلاف المجموعة، لتكون النتائج فيما بعد توجيه السلوك وتعديله والتحكم فيه في بيئات العمل المختلفة، كالمدارس والمصانع، والإدارة لتحفيز السلوك، وتوظيف الثواب والعقاب في الظروف المناسبة، كما أن حل المشكلات الاجتماعية يقوم في الأساس على ما تتوصل إليه بحوث العلوم الإنسانية من نتائج. وتجدر الإشارة إلى أن الدعاية التي تمثل أحد محركات الاقتصاد تعتمد في الأساس على قوانين علم النفس، وكذلك طرق العلاج النفسي.
لا يجب التقليل من قيمة العلوم الإنسانية، لكن مع مراعاة احتياجات سوق العمل، فلا تبخس حقها، ولا يفتح الباب على مصراعيه للقبول في أقسامها، حتى لا يتضخم عدد الخريجين الذين لا عمل لهم.
إنشرها