ثقافة وفنون

«يوم الشمس» .. وسط صمت الحياة ورهبة الرحيل

«يوم الشمس» .. وسط صمت الحياة ورهبة الرحيل

هالة كوثراني

«يوم الشمس» .. وسط صمت الحياة ورهبة الرحيل

أحداث جرت بين ثمانينيات القرن الماضي والزمن الحالي.

بين ماض قاتم تروي تفاصيله حروف مبعثرة على أقمشة جامدة لا تتحرك، وواقع يفرض ظلال الماضي بقوة، ويجبرنا البحث عن حقائق مقروءة يصعب لمسها، تدور أحداث الرواية الخامسة لهالة الكوثراني، "يوم الشمس"، التي تنقلنا بلغتها الخاصة إلى حبكة درامية فيها من تشويق القصص البوليسية الكثير، ننتظر بشغف ما ستؤول إليه النهاية.. بين الباب الذي فتحته "رؤيا" في أول الرواية، والباب الذي أغلقته وهي متجهة إلى المطار في نهايتها، تعيش تفاصيل تشعرك للحظة أنها انتهت من حيث بدأت. بنية درامية محبوكة بطريقة مختلفة، تتكئ على قاموس لغوي، تظهر من خلاله الاستعانة بالمحليات، من أجل تأكيد المصداقية، تعجز فيها التوقف عن التفكير بما ستحمله الأحداث التالية، تغوص من خلالها في أزمنة معاصرة وماضية، وتجد نفسك أمام مشهدية سينمائية، تثير فضولك وتنقلك إلى عالم الجريمة.
القصة
تدور أحداث الرواية حول الفتاة "رؤيا"، التي تنقل مراحل حياتها بين الماضي الذي تذكر فيه قصتها مع أمها "مي" التي تركتها بعدما تزوجت برجل آخر غير أبيها وغادرت إلى اليابان، قبل أن تعود إلى بيروت. "رؤيا" التي ورثت شغفها بالرسم عن والدتها الموهوبة ورسمت الحروف، "ترسمها مفككة ملونة معبرة تجتمع فيها متعة البصر وتخيل سماع موسيقى الحروف والرغبة في اللمس"، تعترف برواية تدور على لسانها بمراحل من حياتها تمتد بين 1985 و2019، الأعوام التي حبكت بخيوطها حياتها الغريبة، لم تتخلص من وهم أمس حتى تتمكن من العيش في وميض اليوم.
تبحث "رؤيا" عن اللوحة المفقودة التي تركتها والدتها لها، وتحصل عليها بالمصادفة، يرسلها أحدهم، لا تعرف من أين وكيف، وتكتشف أنها بحصولها على اللوحة، ستبدأ رحلة أخرى من البحث تلعب فيها دور المحقق، محاولة اكتشاف من كان خلف قتل والدتها وما دوافعه.. لم تكن "رؤيا" فتاة انضباطية، اختارت الاختلاف في كل شيء حتى في علاقاتها العاطفية، التي عاشتها منذ المراهقة حتى منتصف الـ40، وقليلة كانت الإشارات التي ترشدك إلى علاقتها، لعله فقط مالك ابن الناطور الذي ترك بصمته رغم أنه لم يعبر عن تعلقه بها إلا بعد موته، مودعا إرثه الغرامي في عهدة صديقه نديم، الذي كان رسوله لما بعد الموت. تنطق الرواية بلسانها كأنها تعترف بما عاشته من تجارب في بحثها عن الحقيقة. ورغم أن الشخصيات كثيرة ومتعددة في هذه الرواية، غير أنها شخصيات حاضرة غائبة، كصديقاتها من النساء عليا وزينب. كذلك كانت شخصية الأب الذي أقعده ألزهايمر صامتا غير قادر على النطق، ووافته المنية في 2019 حين هوى عن كرسيه.
الانفصال جوهر الرواية
يخطئ من يعتقد أن الموت هو لحظة انفصال عمن يرحلون، وسط صمت الحياة ورهبة الرحيل، يبقى بيننا وبين من نفقدهم شعرة صغيرة من التواصل، قد تتمثل بصورة، بحادثة، بكلمة، بحرف أو ربما بلوحة.. شيء ما يجمعنا بماضي الشخصية التي نفقدها، يعيدنا إلى حيث كنا معا، يطرح أسئلة لا إجابات واضحة أو محددة لها، لكنها قد تشكل نقطة البداية، نحو حقيقة لا تعرف طريقها إلى النور إلا بعد أن نبحث في خلفياتها. وانفصال الابنة عن ابنتها في الرواية بسبب موت الأخيرة، شكل برمزيته حالة من التواصل الروحي، واللاإرادي، تأخذنا وسط زحمة الحروف المبعثرة ورمزيتها المتنوعة إلى مسار من البحث عن السبب، عن القاتل، عن الحقيقة، ورغم أن الرواية تروى على لسان الابنة، لكننا نشعر في لحظة ما كأننا نتشارك في كتابتها، أو لعلنا نتشارك في المشهدية التي أرادت الكاتبة نقلها إلينا. يتحول تراجيديا الرواية إلى سرد فيه انضباط إيقاعي درامي، انتظام في المشهد واللغة، هو انتظام في الانفصال. نعيش مع أبطال الرواية أشكالا مختلفة من الانفصال، بعضها لا تسترسل في الحديث عنه، وتجعله كقدر محتوم لا أسباب تفسره، كانفصال الأم عن البيت وانفصال الأب عن حياته، بعد أن جمده ألزهايمر على كرسي متحرك، وانفصال العمة عن واقعها والتفرغ لتربية الابنة التي بدورها تعيش لحظة انفصال تنقلها من علاقة إلى أخرى، وتبقيها ضمن إطار اللوحة التي تركت فيها الأم رسالتها الأخيرة.
رواية بوليسية
تبدأ بتصفح الرواية بنمط معتاد كما تقرأ أي رواية أخرى، قصة حبكة وأحداث، وفجأة تظهر أمامك ملامح رواية بوليسية حين تصل إلى مقتل الأم، وتكتشف أن الأب هو من حرض على قتل الأم، ونديم صديق "رؤيا" هو الفاعل، بعد أن دفعه مالك الحبيب الذي لم يتجرأ على البوح بحبه، وهنا تغامر كوثراني في الرواية إلى حد استحضار الرواية البوليسية.
عناصر جذب
اعتمدت كوثراني في روايتها "يوم الشمس" على جذب القارئ بكثير من العناصر التي شكلت تحديا أمامه لمتابعة ما يقرأه بشغف وحماس، أحداثها المتنوعة والمتشابكة، تصطدم بسقف التوقعات غير المحققة، لتمهد لنقلة محتملة أخرى. تبدأ أحداث الرواية بهدوء وتمضي بهدوء، ثم سرعان ما تصل إلى خاتمة مثيرة للشجون. تتداخل الأحداث والأزمنة، وتستخدم الرواية مونولوجات "حوارات" طويلة توفر كثيرا من المشاهد وقوة المضامين. تتناقض المواقف بين الشخصيات، وتعود البطلة إلى لحظات من الخلوة الذاتية، تقرأ أفكارها بصوت مرتفع، وتحاول أن تسمع ما تنطق به الحروف في لوحة بدلت مسيرة حياتها. وأردفت كوثراني في مطلع كل فصل من فصول الرواية تحليلا مطولا عن الفن الحروفي، في محاولة جادة لأرشفة هذا الفن، بطريقة ثقافية متجددة، وقد يكون هذا الأمر مطروحا سابقا في الرواية العالمية، لكنه إلى حد ما جديد على الرواية العربية، ما شكل عنصر جذب إضافيا.

دلالات الزمان والمكان
تروي "رؤيا" أحداثا جرت بين ثمانينيات القرن الماضي والزمن الحالي، سفر ينقلنا بين الولادة والموت، العودة والرحيل، الوطن والغربة. نعيش حالة من الانتقال الزمني الذي يصور جانبا من التاريخ الاجتماعي لبيروت، حركة المجتمع، نمط الحياة، التطور والهبوط. ولم يكن جديدا على هالة كوثراني، التطرق إلى بيروت المدينة والهوية، وقد انطلقت في مختلف أعمالها الروائية من بيروت المدينة التي تؤرق شغفها الأدبي في الماضي والحاضر والمستقبل، وهي على عكس النظرية التي ترسخ أهمية الزمان في النقد الأدبي، يبقى المكان العنصر الأبرز في كتاباتها. تحاول دائما نقل صورة الغربة داخل الوطن وداخل البيت، "رؤيا" لم تعرف الانتماء، وعاشت غربة قاسية حتى بين أهلها. وتنهي كوثراني، روايتها "علقت لوحتي أمي، وأعدت ما بقي من أوراق أبي وكتبه إلى رفوف مكتبتي. أقفلت باب بيتي وغادرت إلى المطار. تغيرت الدنيا، ولن أشعر في اليابان بأنني على كوكب آخر. لكنني هناك سأكون بعيدة مني وقريبة منها".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون