FINANCIAL TIMES

سنغافورة .. ملاذ النخبة الصينية

سنغافورة .. ملاذ النخبة الصينية

خلال الـ57 عاما كدولة مستقلة، كان من النادر أن تتصدر سنغافورة عناوين الأخبار الثقافية، لكن لأول مرة في 2018 توافد ملايين الناس حول العالم إلى الدولة المدينة لمشاهدة موقع تصوير فيلم تدور أحداثه فيها.
فيلم "آسيويون فاحشو الثراء"، من إنتاج هوليوود ومستوحى من رواية لكاتب سنغافوري، سحر الأجانب عندما منحهم رؤية خيالية عن الجزيرة التي تبلغ مساحتها 733 كيلومترا مربعا، وفيها يتنقل الصينيون من أصحاب المليارات بين القصور وفنادق "الخمس نجوم". وصفت سنغافورة بأنها حفلة كوكتيل لا تنتهي أبدا، حيث يلتقي فيها الأثرياء ويتجاذبون أطراف الحديث دائما، وكانت الرفاهية دائما حاضرة هناك.
تتلقى هذه المدينة الغنية بجنون الآن دفعة جديدة وكبيرة من المال، بفضل وفود كبار رجال الأعمال إليها عبر بحر الصين الجنوبي، بعد معاناتهم القمع السياسي لأعوام، وعمليات الإغلاق الصارمة أثناء جائحة كوفيد، وعدم رضاهم عن سمعة بكين العالمية، قام عديد من أثرياء الصين بحزم بدلاتهم وملابسهم من تصميم دور الأزياء العالمية. ووفقا للمتخصصين في إدارة الثروات في سنغافورة، فإن أعدادا متزايدة منهم قاموا بحجز تذاكر سفر بالطائرة إلى الدولة المدينة.
تشير التقارير المتناقلة شفهيا إلى وصول العملاء الأثرياء بأعداد كبيرة إلى فنادق سنغافورة والعقارات المطلة على البحر، وهذا يشير إلى أن الدولة المدينة قد تتفوق على هونج كونج كوجهة رئيسة للأثرياء في آسيا، بعد أن شوهت بكين جاذبيتها بسبب الحملة الصارمة التي شنتها على المستعمرة البريطانية السابقة.
يقول فيكنا راجا، الرئيس المشارك لقطاع العملاء الخاص في شركة راجاه آند تان للمحاماة، "لقد كانت الأمور في هذا العام جنونية حقا"، ويضيف "إن فريقه في سنغافورة يتعامل أسبوعيا مع طلب استفسار واحد من أصحاب الملايين الذين يرغبون في إنشاء مكتب عائلي، وهو نوع من شركات الاستثمار الخاصة. يأتي نحو ثلث هذه الطلبات من الصين. لكن قبل بضعة أعوام، كانت الشركة تتلقى حفنة من الاستفسارات كل عام فقط".
كما يقول راجا "في أوقات عدم اليقين، تصبح هناك تدفقات إلى الولايات القضائية الأكثر استقرارا، وينظر إلى سنغافورة على أنها دولة آمنة للغاية، حيث تتمتع بسيادة قوية للقانون".
قال متخصص آخر في الخدمات المالية في سنغافورة - بشرط عدم الكشف عن هويته - الذي كان أكثر سخرية من غيره "إن العقوبات المفروضة على الأوليجارشية الروس بسبب حرب أوكرانيا جعلت الصينيين الأثرياء يخشون أن تفرض عليهم قيود مشابهة إذا سعت بكين إلى غزو تايوان"، وأضاف "إن الانتقال إلى سنغافورة يمكن أن يوجد مسافة أمان عن الحكومة الصينية".
ويتابع المختص في الشرح قائلا "إن الصينيين أصحاب المليارات يريدون عدم الكشف عن هوياتهم بأنهم صينيون، وهذا يشبه غسل الأموال، لكن الفرق هو أنك تقوم بغسل هويتك".
يقول جوزيف بون، رئيس الخدمات المصرفية الخاصة في بنك دي بي إس السنغافوري للإقراض، "إن الطلب يزداد أكثر وأكثر من العملاء الصينيين الذين يتطلعون إلى إنشاء مكاتب عائلية".
وضيف بون "في الماضي، كانت هونج كونج بالنسبة إليهم نقطة انطلاق معتادة لخارج الصين. لكن الآن، هل هي حقا بمعزل عن الصين من حيث القوانين واللوائح التنظيمية؟ كثير من العملاء لا يرون الأمر كذلك. فقد تحول وجود الشركات الخارجية في آسيا إلى سنغافورة".
هذه ليست المرة الأولى التي تستقبل فيها سنغافورة وفود المهاجرين من الصين، فعندما كانت المنطقة من قبل غابة مطيرة وقليلة السكان حيث كان يبلغ عددهم مائة نسمة، تحولت بعد ذلك إلى ميناء شحن يستخدمه المستعمرون وتضخم عدد سكانها في القرن الـ19، ويرجع الفضل في ذلك بحد كبير إلى وصول التجار والعمال الصينيين إلى شواطئها.
منذ ذلك الحين، حافظت الدولة المدينة على روابط وثيقة مع الصين. ففي 2019، كان أكثر من ثلاثة أرباع سكان سنغافورة البالغ عددهم 5.3 مليون نسمة من أصول صينية، كما هي الحال مع كل رئيس وزراء للبلاد منذ الاستقلال. وتعد تجارة سنغافورة مع الصين أكثر من أي دولة أخرى.
بعد أن برزت سنغافورة كمركز تجاري منخفض الضرائب في أواخر القرن الـ20 - مع إزالة المباني التي أنشئت خلال حقبة الاستعمار من أجل إفساح المجال لبناء الأبراج الزجاجية الأنيقة - قام عديد من الصينيين بحفظ أموالهم فيها في صناديق استثمار خارجية. لكن مع ازدهار الاقتصاد في دولتهم أيضا، كان عدد المهتمين بالهجرة قليلا نسبيا.
يقول مسؤول سابق في سنغافورة "مزيد من الأصدقاء والمعارف الصينيين بدأوا يستقرون الآن وأصبحوا يتساءلون: كيف باستطاعتي أن أحصل على إقامة دائمة في سنغافورة؟".
ويضيف "إن حديث بكين المتزايد عن نهج الرخاء المشترك وملاحقة رواد الأعمال قد أثار حفيظة الذين صنعوا ثرواتهم في الصين. واليوم، تبدو سنغافورة أكثر ودا بكثير مع الأثرياء".
ويواصل المسؤول "هل تريد أن ترى الأغنياء الصينيين الحقيقيين؟ اذهب وتجول في سينتوسا"، في إشارة إلى الجزيرة الواقعة قبالة الساحل الجنوبي لسنغافورة التي تشبه منطقة معزولة مخصصة لأصحاب المليارات. ويتابع بالقول "يبدو أن هناك زيادة طفيفة في أعداد سيارات البنتلي".
في ملاحظة أبداها أحد المسؤولين التنفيذيين في الصناعة المالية أن "أصحاب المليارات الصينيين كانوا دائما يعاملون سنغافورة على أنها فندق، تماما كما فعل الروس في لندن. أما الآن، فهم مقيمون دائمون فيها" - لكنه طلب أيضا عدم ذكر اسمه، بسبب حساسية الأمر.
وصل وافدون جدد إلى الفلل في جزيرة سينتوسا الشاطئية الفاخرة، على الرغم من الوعود التي قطعتها حكومة سنغافورة بتنظيم الأموال الأجنبية بحزم أكثر. لكن موطن فيلم "آسيويون فاحشو الثراء" هو أيضا موطن لعدم المساواة القاسية. كان تذمر الناخبين حول فوائد تشجيع النخبة الأجنبية قد تسبب في الضغط على الحكومة في أحد أكثر الاقتصادات ليبرالية في العالم للاستجابة.
في أبريل، رفعت سنغافورة بشكل هامشي المتطلبات لإنشاء المكاتب العائلية من أجل التأهل للحصول على إعفاءات ضريبية على الدخل من استثماراتهم. وفي خطوة يبدو أنها مصممة لوقف الأجانب عن معاملة سنغافورة على أنها "فندق"، أعلن المسؤولون أنه يجب عليهم الآن أن يستثمروا ما لا يقل عن عشرة ملايين دولار سنغافوري "7.1 مليون دولار" داخل سنغافورة، أو 10 في المائة من أصولهم في حال كان المبلغ أقل. وهناك متطلب آخر لتخصيص الأموال من أجل توظيف أحد المختصين من خارج الأسرة.
وقال متحدث باسم سلطة النقد السنغافورية، "إن التغييرات تم إدخالها من أجل تعزيز الآثار الإيجابية في الاقتصاد السنغافوري". لكن مديري الثروات يقولون "إن هذا لم يمنع العملاء الصينيين من السفر إليها. فالالتزام بإنفاق عشرة ملايين دولار سنغافوري وتوظيف شخص من غير الأقرباء هي تكاليف لا تذكر بالنسبة إلى الأسر التي تسعى إلى إنشاء مكاتب عائلية، تصل قيمة أصولها عادة إلى مئات الملايين من الدولارات".
لكن في السياق الجيوسياسي الأوسع، أصبحت سنغافورة أكثر جاذبية.
قال أحد أصحاب الملايين والمقيم منذ فترة طويلة في سنغافورة، "إن الآباء لا يريدون إرسال أبنائهم إلى الغرب"، مشيرا إلى العداء المتزايد تجاه الصين والعنصرية ضد الصينيين في الغرب. وأضاف "لا يمكنك الذهاب إلى هونج كونج. سنغافورة هي أكثر الأماكن شبها بالصين، التي يمكنك التوجه إليها".
وفقا للمسؤول السنغافوري السابق "إذا ذهبت للعيش في دولة غربية، فأنت تقوم بإفساد العلاقات بينك وبين الصين. إن علاقتنا ودودة بما فيه الكفاية مع الصين. نحن قريبون جغرافيا، وقريبون ثقافيا. يمكنك تسميتها استراتيجية المرافق للصين. ونحن هو ذاك المرافق".
بينما يبدو أن سنغافورة تشدد لوائحها التنظيمية، إلا أنها في الواقع اتخذت عددا من الخطوات لاستقطاب مزيد من الثروات من الخارج.
قام مجلس التنمية الاقتصادية، وهو الكيان الحكومي المسؤول عن جلب الأعمال الأجنبية، بزيادة تسويقه للدولة المدينة باعتبارها "الوجهة المثالية" للمكاتب العائلية.
في 2021، بينما كانت بكين تشدد قبضتها على المحامين والسياسة في هونج كونج، نشر مجلس التنمية الاقتصادية تقريراً يشيد بـ"الاستقرار السياسي في سنغافورة والسيادة القوية للقانون". كما سلط التقرير الضوء على "الطريقة التي يمكن للشركات العائلية أن تتطلع إلى الحصول على الرعاية الصحية الممتازة والإسكان والتعليم"، كما أشار إلى أنه بحلول نهاية 2020، كان هناك نحو 400 مكتب عائلي في سنغافورة، وهو ضعف العدد قبل ذلك بعام.
حتى إنه تم منح بعض العملاء "إذنا خاصا" بالسفر إلى سنغافورة خلال ذروة الجائحة، وذلك عندما كان السكان يواجهون إحدى أكثر عمليات الإغلاق صرامة في العالم، كما يقول بون من بنك دي بي إس.
ردا على سؤال حول الكيفية التي قضى بها عملاؤه الصينيون وقتهم منذ وصولهم إلى الدولة المدينة، أصر بون على أن اهتمامهم الأساسي هو ممارسة الأعمال التجارية.
يقول بون "لا أعتقد أن كثيرين يأتون ويفكرون في أن هذا يشبه فيلم (آسيويون فاحشو الثراء)، حيث يقومون فيه بأفعال مجنونة في سنغافورة. الأمر الوحيد الذي أرى أنهم ينغمسون في فعله هو أن كثيرين منهم يلعبون الجولف بشكل أكثر"، وأضاف "ما زالت سنغافورة جزيرة محايدة في نظر كثير من الناس (...) وقد أصبح كثير جدا من الصينيين يهتمون بالتوسع في أسواق أخرى، بسبب سنغافورة الآمنة".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES