Author

دور الشراكة في تجنب زعزعة الأسواق

|

قلنا في وقت سابق إن الابتكار، باختصار، هو معرفة متميزة، يتجلى تميزها في أنها تحمل قيمة تستطيع الإسهام في التنمية والتطور. وإذا أردنا أن ننظر إلى هذا الموضع بمنظار الأثر، لوجدنا أن هناك آثارا مختلفة. هناك منتجات تتمتع بخصائص مبتكرة متزايدة، تتضمن تحسينات دورية مستمرة، تعزز نجاحها وتفعل استدامتها في السوق. وهذا ما نجده - على سبيل المثال - في أجهزة الجوال وتطورها السنوي الذي يحفز المستفيدين على شراء الأجهزة الجديدة، قبل انتهاء العمر الافتراضي للأجهزة السابقة. ثم هناك المنتجات التي تحمل ابتكارا جذريا يؤدي، في أثره، إلى تغيير كبير في جانب مهم من جوانب حياة الإنسان. ومثال ذلك السيارة والطائرة، فضلا أيضا عن الإنترنت الذي منحنا عالما جديدا نعيش ساعات فيه كل يوم، هو العالم السيبراني، الذي غير أسلوب حياة الإنسان، في جانبيه المهني والاجتماعي.
هناك بالطبع آثار مختلفة أخرى لشتى أنواع الابتكارات، لعل من أهمها الذي يؤدي، في أثره، إلى زعزعة في سوق المنتجات التي يستهدفها. ويعرف هذا "بالابتكار المزعزع Disruptive Innovation". وكان أول من طرح هذا التعبير في 1995، عبر الملاحظة والتمييز واستخلاص النتائج، أستاذ الإدارة كليتون كريستنسن Clayton Christensen الذي عمل في جامعة هارفارد، ورحل عن عالمنا في 2020. وكان قد أمضى أعواما في البحث في شؤونه، عبر حياته الأكاديمية، التي كانت مرتبطة أيضا بالسوق والحياة والمهنية. ويعد كتابه الشهير "معضلة الابتكار Innovation Dilemma"، الصادر في 1997، من أبرز المنجزات المعرفية التي قدمها.
يعرف الابتكار المزعزع بأنه "إجراء يستهدف تقديم منتجات أو خدمات أولية بسيطة، تؤدي إلى نشوء سوق جديدة لها، ثم تطوير هذه المنتجات والخدمات بشكل متواصل بحيث يؤدي ذلك إلى زعزعة وجود مؤسسات كبرى عريقة تعمل في مجال هذه المنتجات والخدمات، وربما إزاحة بعضها عن العمل".
ولعل من أبرز الأمثلة التي كان كريستنسن يتحدث عنها في هذا المجال، مثال السيارات اليابانية التي دخلت السوق الأمريكية في ستينيات القرن الـ20، ثم زعزعت، بعد ذلك، عمالقة صناعة السيارات في هذه السوق. فقد كانت السيارات اليابانية في تلك الفترة رخيصة الثمن مقارنة بأسعار السيارات الأمريكية، لكن إمكاناتها لم تكن ترقى إلى مستوى إمكانات السيارات الأمريكية. ومع ذلك، وبسبب انخفاض ثمنها، استطاعت فتح سوق جديدة للسيارات، لم يكن في إمكان زبائنها شراء السيارات الأمريكية المرتفعة الثمن.
ومع مرور الزمن تطورت السيارات اليابانية تدريجيا، وباتت تطرح منتجات منافسة نوعيا للسيارات الأمريكية، مع التميز في انخفاض جزئي في التكاليف، لتزعزع بذلك سوق السيارات في أمريكا. وانطبق هذا التزعزع أيضا على سوق السيارات في أوروبا، وكذلك العالم بأسره. وسلكت السيارات الكورية، بعد ذلك، مسلكا مماثلا، وتنطلق السيارات الصينية اليوم عبر الطريق ذاته. وبالطبع، لم تكن سوق السيارات السوق الوحيدة الذي شهدت هذا التحول، فهناك أمثلة أخرى لأسواق سلع أخرى شهدت مثل ذلك.
وننتقل إلى فكرة مهمة ترتبط بهذا النوع، وتتمثل هذه الفكرة بملاحظة دور الشراكة فيه. فقد تسبق الشراكة هذا الابتكار وتكون سببا في حدوثه، كما يمكن أن تكون وسيلة لمحاولة تجنبه. إذا بدأنا بالشراكة كسبب، نجد أن لدينا مثالين مهمين: الأول، هو الشراكة بين الصناعة اليابانية من جهة، وخبراء أمريكيين في متطلبات الجودة من جهة أخرى، وذلك بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت هزيمة اليابان ومعاناتها قنبلتين ذريتين أمريكيتين. فلم تثن معاناة الهزيمة إرادة اليابان عن العمل والنجاح، بل عن الشراكة من أجل ذلك، حتى مع بعض المواطنين الأمريكيين. فقد أقامت اليابان شراكة استشارية مع خبراء أمريكيين في جودة الإنتاج، وكان على رأسهم وليم إدوارد ديمينغ William Edwards Deming، الذي لقب فيما بعد "بأبي إدارة الجودة".
ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أن الجودة لا تعني إضافات إلى المنتجات تحقق مزيدا من الرفاهية، بل تعني تقديم منتجات تحقق متطلبات السوق المستهدفة، بفاعلية وموثوقية، مع توخي الكفاءة والحد من الأخطاء والهدر. بهذه الجودة فتحت اليابان سوقا جديدة للسيارات في أمريكا والعالم، ثم تطورت لاقتحام السوق الأكبر وزعزعة المنتجين فيها.
وننتقل إلى المثال الثاني للشراكة كسبب للابتكار المزعزع الذي بدأت ملامحه بالظهور اليوم، ومصدره هنا هو الصين. فقد بدأت الصين في العقود الأخيرة شراكات صناعية مع شركات من الدول الصناعية المتقدمة، حيث قدمت الصين لهذه الشركات مهارات بشرية بتكاليف محدودة. وبذلك برزت في الأسواق، ولا تزال، منتجات لشركات أمريكية وأوروبية، مصنوعة في الصين. وهكذا انتقلت الخبرة التقنية لهذه الشركات تدريجيا إلى الصين، لتقوم الصين بتقديم منتجات مثيلة، وأحيانا أكثر تطورا، عبر شركاتها الخاصة، لكن بسعر أقل يزعزع السوق. وشهد العالم ذلك على نطاق واسع في سوق الإلكترونيات، وفي سوق السيارات. ويستخدم بعض الدول قوانين لمنع، أو إعاقة استيراد بعض المنتجات الصينية من أجل حماية منتجاتها المحلية. ونصل إلى مسألة الشراكة كوسيلة لمحاولة تجنب زعزعة السوق. فقد ظهرت شراكات مختلفة لمواجهة مشكلات السوق واحتمالات زعزعتها. ومن أمثلة ذلك توجه بعض الشركات الكبرى نحو إقامة شراكات مع مؤسسات في دول العالم المختلفة، تقضي بتصنيع منتجاتها محليا في تلك الدول. فذلك يحد من تكاليف النقل، وأعباء رسوم الاستيراد. وتعد شركة تويوتا Toyota من أبرز الشركات في هذا المجال، حيث تتوزع مصانعها حول العالم في آسيا، وأوروبا، وأستراليا، وأمريكا في شمالها وجنوبها. لكن مثل هذه الشراكة تحمل أيضا مخاطرة ابتكار مزعزع تقوم به المؤسسات المحلية، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه.
يكمن جوهر الابتكار المزعزع في القدرة على المنافسة في السوق، وتستطيع الشراكة أن تكون وسيلة لإطلاق هذه المنافسة، كما تستطيع أن تكون أسلوبا للتعامل معها. وفي المشهد العالمي معطيات كثيرة ومفيدة، تستحق التأمل، من أجل التعامل بحكمة مع المستقبل.

إنشرها