ثقافة وفنون

في "حوش عباس".. الحياة تنتهي حيث يلد القهر

في "حوش عباس".. الحياة تنتهي حيث يلد القهر

في "حوش عباس".. الحياة تنتهي حيث يلد القهر

منذ اللحظة الأولى لإعلان صدور رواية "حوش عباس"، وهي تثير ردود فعل إيجابية، في وتيرة لا تتوقف، ربما بدافع الفضول لمعرفة ماذا في داخل الحوش؟ ومن عباس؟ في حكايا لا يكاد يتمالك القارئ نفسه من سخونتها.
في "حوش عباس" أحداث درامية متلاحقة، حوارات وقصص دافئة، وأخرى يكتوي القلب بنيرانها، في قصة متماسكة للروائي جابر محمد مدخلي، يعطي عنوانها قوة جذب وتشويق قد لا تتوافر في عناوين الروايات الأخرى.

عائلة دفنت مآسيها
بغلاف فريد، وهو لوحة للرسامة ندى عبدالله، وبلغة ومفردات تضرب بشجاعة لتسجل معاني إنسانية، جاء مدخلي متسلحا برواية جديدة، جاء في خلفية غلافها، "أنا الذي كنت أنعم إلى جوار أمي ليلا ونهارا بالطمأنينة، وأحوز من أبي على الحب، وبعض من قسوته التي أراها اليوم أحب من قسوة غيره علي، أنا الذي سكنت روح أماني، وتغلغلت في عالمها، وحياتها، وغدوت أثمن أشيائها، وأهم اهتماماتها، ولا طعم لحياة أحدنا دون الآخر، أنا الذي أحبتني أخته لأبيه سالمة، وحاولت إسعادي كلما توافر لها ذلك، أنا الذي ينتظره صديقه صولان على الحدود للعودة إليه، وأنا الذي كنت سأغدو شيئا ثمينا ومهما لكل هؤلاء، وبين صبح وضحاه فقدت كل ذلك وتحولت إلى نتفة لحم في طريق كلب مسعور في حوش لجي، اسمه حوش عباس".
ينطلق بنا جابر مدخلي في روايته من زوجة يمنية وزوج سعودي وأبنائهما، الذين يعيشون في قرية المجدعة بجانب الحدود، وأجبروا على الانتقال عنها، للابتعاد عن خطرها وظروفها المقيتة والمفاجئة، ليتركوا فقرها، ومآسيها الكبيرة، وقصصها المتفحمة، وروائحها الحجرية، وملابسها الجبلية.
تعود أحداث الراوية إلى ما قبل الألفية الجديدة، أكثر من 20 عاما مضت على انتقال العائلة إلى محافظة أبو عريش، مرورا بالخوبة، وجبلا دخان والدود، أهم جبلين على الحدود السعودية اليمنية وتتمركز فيهما بين حين وآخر قوات سعودية للإشراف على أمن الحدود، لكنهم كانوا كمن فر من الماء إلى بطن الحوت، إذ انتقلوا للعيش عند زوجة أبيهم الأولى وأبنائهم.

خيال وتوثيق
خيال الروائي واسع، فكيف إذا بخيال جابر مدخلي، صاحب روايتين سابقتين لحوش عباس، هما "مجاعة" و"إثبات عذرية"، الذي ينسج من مفرداته لوحات تستقر في ذهن القارئ، مثل وصفه حينما كتب "أمي المشرقة قبل بزوغ الشمس بقليل ابتسمت كما لو أنها لوحة يصعب رسمها، شعرها متدل غارق من أثر الاغتسال، ويدها التي رفعت بها غرتها مخضبة بالحناء، ووقفتها الفاتنة، وخصرها الذي زواه العناء".
تتكئ الرواية على أساس متين، ففي جنباتها توثيق بشكل غير مباشر لمواقف وأحداث تاريخية غابرة، مثل سوق الصميل التي يتجاوز عمر وجودها مئات الأعوام، تلك السوق التي كانت شاهدا على بقايا آثار حرب الثورة اليمنية، وماتت حوله عشرات الأنفس البريئة، وفي محيطه بقايا بيت أثري من الطين والحجر احترقت فيه عائلة بكاملها، فسموه فيما بعد "بيت الصابرين".

إلى عمق اليمن
في مغامرات جيلان، شخصية الرواية الرئيسة التي أهداها مدخلي هذا العمل بعبارة "إلى جيلان الذي سويته بيدي.."، مواقف عصية على الحصر، في كل منها مغزى وعبرة.
وقد أجاد الروائي حينما عبر عن تساؤلات الطفل جيلان البريئة في "حوش عباس" في بساطة، هي في حقيقتها وجه آخر للعبقرية، حينما كتب عن جيلان وهو في طريق عودته إلى مسقط ذكرياته تساؤلا كان يمزقه من الداخل، فابن التاسعة كان بطيبة القروي الحزين، غدا يقول، لماذا يمر الوقت ثقيلا على الأطفال وهم في طريق عودتهم إلى مساقط رؤوسهم؟ لماذا ينزعونهم من أماكنهم المقدسة دون استئذانهم أو أخذ آرائهم؟ لماذا يخرجونهم منها ظانين أنهم ما زالوا صغارا، وأن تعلقهم بالأماكن سيزول مع أول لعبة أو حلوى تقدم إليهم فور مغادرتهم منها؟! فالأطفال يتأذون من قرارات كثيرة يتخذها الكبار بحقهم دون أن يضعوا لمشاعرهم اعتبارا أو اهتماما.
جيلان كان وفيا لجبل الدود الذي يحفظه كما يحفظ كف يده، يعرف كم صخرة فيه، وعليه نزف دما حتى بلل قمته، غادره مضطرا، وعاد إليه وإلى قرية المجدعة بعد غياب، في اليوم الأول لترسيم الحدود بين المملكة واليمن، عاد ووجد معالم قريته قد تغيرت، حتى جبل الدود تغير.
ويروي مدخلي بلغته الرشيقة على لسان جيلان ما حدث في تلك العودة، إذ يقول صعدنا الصخور من جهة جديدة لم أكن قد صعدتها من قبل، فلجبل الدود سبع جهات، كل جهة لها رائحة، وصخور، ونباتات مختلفة، ثمة جهات فيه تهبطها الصقور وتبني عليها أعشاشها، وأخرى تسكن في زواياها النمور العربية، كما أخبرتني أمي، وثالثة يسكنها النحل ليصنع في أمنه واستقراره وعلوه الشاهق أقراص عسله، لتتراكم أعوام طويلة إلا من استطاع الوصول إليها، واحتمل قرصات النحل العنيفة في سبيل تذوقها.
وفي تلك اللحظات، مشى جيلان إلى عمق اليمن، ووجد هناك وفودا من "الحمير" يركبها الرجال والنساء والأطفال، حيث شعر لوهلة كما لو أنه أمام إحدى معارك العصر الجاهلي، مستعدون للمجازفة دخولا للأراضي السعودية، لم يستوعب أين ستذهب كل تلك الأعداد وكيف ستتجاوز الحدود، إلا لاحقا.. ذلك اللاحق الذي عرف فيه ما ظل لأعوام طفولته يجهله، وظل الله يخفيه عنه لحين أوانه.

في أحواش العالم
لم تكن قصة عودة جيلان إلى قريته التي انتزع منها سوى قطرة في بحر الحكاية، فـ "مغامرته" التالية - إن جاز لنا هذا الوصف المخفف - كانت مع العم عباس، كهل أبرص، أخذه إليه أخيه لأبيه، باعه لرجل يتولاه، تحقيقا لوصية أمه في رؤية ضرتها وهي تموت حزنا وكمدا.
في حوش عباس ذي البوابة الخضراء وسوره العالي، لا تبدو الأمور مبشرة، "فما الذي يجيء من فم التنين غير اللهب؟!"، على حد تعبيره.
دون أن نحرق الأحداث المشوقة على قارئ الرواية، يسير بنا جيلان بطل الرواية وشخصيتها الرئيسة في خفايا ذلك الحوش، وتأكد مع الزمن أنه وغيره من الأحواش تحوي كثيرا من الخفايا والأحداث المربكة.
فالأحواش كما بيوتنا وحيواتنا، يرى مدخلي في روايته بأنها متشابهة مهما اختلفت لغاتها، وأماكنها، ودياناتها، وفي حوش عباس الأسرار مخيفة ومرعبة.
وفي عباس وحوشه، يجب أن تتعامل مع الرحيل على أنه حياة جديدة، فمع رحيل آخرين قد تعيش أنت، ومع تعاقب الأعوام، تختلف نظرة الإنسان، ففي الحوش ذاته آمن جيلان أنه بالمال وحده يحيا الإنسان.
في رواية ممتعة، تدور رحاها في 377 صفحة، صادرة عن دار تشكيل، معاني حياتية، منها الحقيقة التي يصل لها جيلان، ومفادها أن الحياة تنتهي حيث يلد القهر، وتبدأ من جديد كلما استنسخ الموتى على قيد الحياة حياتهم الأخرى من العقاب أو العذاب.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون