ثقافة وفنون

فن الحيل.. من صناعة الفقهاء إلى حذاقة الساسة

فن الحيل.. من صناعة الفقهاء إلى حذاقة الساسة

فن الحيل.. من صناعة الفقهاء إلى حذاقة الساسة

فن الحيل.. من صناعة الفقهاء إلى حذاقة الساسة

عادة ما اقترنت الحيل ومفردها حيلة في الثقافة الشعبية بدلالة سلبية، فسماع الكلمة يبعث في الذهن معاني "الكذب والنفاق والخداع"، فيما يدل المعنى الأصلي على آلة توفر الجهد والمشاق على الإنسان. وكانت العرب قديما تطلق لفظ الحيل على علم الهندسة الميكانيكية، وقد ذكرها الخوارزمي في أصناف العلوم التسعة، الفلسفة والعلم الإلهي، والمنطق، والطب، والإرثماطيقي "علم العدد"، والهندسة، وعلم النجوم، والموسيقى، والكيمياء، والحيل. وتتفرع إلى قسمين، "حيل جر الأثقال بالقوة اليسيرة وآلاته، وحيل حركات الماء وصنعة الأواني العجيبة، وما يتصل بها من صنعة الآلات المتحركة بذاتها".
الحيلة والحيل والتحيل، في "لسان العرب" لابن منظور، كل ذلك من الحذق وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف. ونقرأ في "التعريفات" للشريف الجرجاني بأن "الحيلة اسم من الاحتيال، وهي التي تحول المرء عما يكرهه إلى ما يحبه"، وقيل أيضا بأن "الحيلة من التحول، لأن بها يتحول فاعلها من حال إلى حال بنوع تدبير ولطف يحيل به الشيء عن ظاهره". ويفصل الراغب الأصفهاني في أوجهها، فيقول بأن، "الحيلة ما يتوصل بها إلى حالة ما في خفية، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل في حكمة".
الحيل صناعة فقهية أصيلة
خلاف الخداع والتلاعب والمراوغة والنصب.. التي تحدث باستخدام أساليب ملتوية من تزوير وتدليس وتلفيق وافتراء، يكون أعمال العقل واتباع الحكمة والحذاقة في التدبير، سبيلا للخروج من المأزق أو المشكلة. ويؤكد ابن مسكويه في "الحكمة الخالدة" أن "الحيلة خير من الشدة، والتأني أفضل من العجلة.. أضعف الحيلة أنفع من أقوى الشدة، وأقل التأني أجدى من أكثر العجلة".
حكم الفيلسوف فصلها العالم السياسي أبو بكر الطرطوشي في "سراج الملوك" في شكل وصايا للأمراء والسلاطين، بقوله، "فنحن وإن كنا نرغب عن الدهاء والمكر، فإننا ترغب في الحيلة، ونوصي بها، والاتساع في الحيلة مما تواصى به العقلاء قديما وحديثا، وليس شيء من أمور الدنيا لطالب الرفعة وباغي الوسيلة، ومرتاد أي أمر كان، دق أو جل، خير من الحيلة. وأضعف الحيلة أنفع من كثير الشدة".
تاريخيا، ارتبطت الحيل بالفقه الإسلامي، وعلى وجه التحديد بالمذهب الحنفي، فهو صاحب الفضل في تأسيس "الحيل الفقهية". وكانت لأتباع هذا المذهب العقلاني بصمة خاصة في الموضوع، فمظان مصنفاتهم، في باب الحيل، نوادر فريدة ودرر خلاقة، تبرز نباهة وفطنة وسليقة العقل المسلم. يبقى مؤلف "المخارج في الحيل" لمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، أولها وأشهرها، إذ تضمن 30 بابا عن الحيل، في مختلف ضروب الحياة.
كان ولع الأحناف بالقياس سببا في إبداعهم وإمتاعهم أيضا، فقد روى عن أبي حنيفة أنه أنه أمر حجامه أن يلقط الشعر الأبيض من رأسه أو لحيته، قال، "إن لقطتها كثرت". قال، "إذن القط السود، حتى تكثر!". ويحكى أن رجلا من أصحابه أبي حنيفة رغب في الزواج من قوم، فتحفظوا على الأمر، حتى يسألوا عنه أبا حنفية. فأوصاه الإمام قائلا، "إذا دخلت علي فضع يدك على رأسك"، ففعل الرجل ذلك. فقال له أبو حنيفة، "تبيعني ما تحت يدك بشعرة آلاف درهم"، قال، "لا والله". عشية جاء القوم يسألون أبا حنيفة عنه، قال لهم، "رأيته اليوم، ومع شيء هو له وملكه، أعطيته فيه عشرة آلاف درهم وما باعني، وهو بعض ما يملكه". فزوجوه وبلغ غرضه.
فورة الآداب السلطانية
حضور الحيلة في عالم السياسة أضعاف مضاعفة مما عليه في مجال الفقه، فالتراث العربي زاخر بالمؤلفات عن حيل العرب في السياسة. فقد حكي أن محمد علي الكبير، باشا مصر "1769-1849" أمر بوقف ترجمة كتاب "الأمير" للفيلسوف الإيطالي نيكولو ميكافيلي، بعد قراءة فصلين فقط، لأنه "يعرف من الحيل أكثر مما يعرف هذا الأمير الأوروبي". واقعة تعززها روايات تاريخية تفيد بأن الإمبراطور فريديك الثاني لم يجد غضاضة في التوجه إلى السياسيين العرب لكي يتتلمذ على أيديهم فنون الحيل السياسية.
ظهر في مرحلة مبكرة من التاريخ العربي الإسلامي فكر سياسي جديد، عرف باسم "الآداب السلطانية"، فالحيلة لدى العرب أساس عملية الحكم والسياسة، ألم يقل الشاعر أبو الطيب المتنبي "الرأي قبل شجاعة الشجعان/ هو أول وهي المحل الثاني". وفي باب نصح وإرشاد الحكام نقرأ لدى أبي الحسن علي الماوردي "... ليستعمل الملك مداهنة الأعداء قبل مكاشفتهم، وليجعل محاربتهم آخر مكايده، فإنه ينفق في المكايد من الأموال، وينفق في المحاربة من النفوس، ولذلك قيل، أوهن الأعداء كيدا أظفرهم بعداوته".
أخيرا، تعززت الخزانة العربية بكتاب قيم، تسرد فصوله قصص وأحاديث عن الحيل والدهاء، وحمل عنوان، "السياسة والحيلة عند العرب، رقائق الحلل في دقائق الحيل" للباحث رنيه خوام، عن دار الساقي "2015". يذكر أن الكتاب وضع أواخر القرن 13 وبداية القرن 14، أي قبل نحو قرن من كتاب الأمير. وترجم ابتداء من 1976 إلى عديد من اللغات العالمية، فيما ظلت النسخة مخطوطة في المكتبة الوطنية في باريس حتى أواسط العقد الماضي.
فضلا عن سرد غريب وعجيب الأقاصيص عن الحيل، في 20 بابا تراوحت في موضوعاتها، بين حيل الملوك والسلاطين والوزراء والقضاة والفقهاء والعباد والأمراء والأطباء والشعراء والتجار واللصوص والنساء والحيوانات... يبقى المثير والمهم في المؤلف ذكر صاحبه لقائمة من المنصفات المفقودة والكتب الضائعة، وتقديم شهادات مؤلفين اختفت أسماؤهم، وضاعت آثارهم.
قد لا تكون تلك الحقيقة عجبا، حين نعلم أن الحيل دائمة الحضور في حياة العرب حتى تحولت إلى فن يتنافسون في إتقانه، فهذا المهلب بن أبي صفرة يوصي أولاده قائلا، "عليكم من الحرب بالمكيدة فإنها أبلغ من النجدة". وقيل لعنترة بن شداد، "أنت أشجع الناس وأشدهم؟" قال، "لا". قيل: "فلماذا شاع لك هذا؟". قال، "أقدم إذا رأيت الإقدام عزما، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما. ولا أدخل موضعا إلا أرى فيه مخرجا".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون