دفع الركود .. المعادلة المنفلتة

لا يوجد استنتاج واضح ودقيق لحركة مسار مؤشرات الأسواق العالمية خلال الفترة القصيرة المقبلة. هناك توقعات تدل على أن ضغوط التضخم ستتراجع، خصوصا في الاقتصادات المتقدمة، بينما تظهر مؤشرات إلى إمكانية أن يستمر حال معدلات التضخم على ما هي عليه حتى نهاية العام الجاري على الأقل.
الأسواق تترقب بحذر شديد ما يجري على الساحة حاليا، وهي "متعلقة" بصورة واضحة وكبيرة ببعض الدلائل عن إمكانية تراجع ضغوط الأسعار.
والسؤال المطروح هنا، ماذا يعني ذلك؟ الإجابة أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي" سيعيد النظر في سياسته التي اعتمدها منذ مطلع العام الحالي، الهادفة إلى مواصلة رفع الفائدة للسيطرة على التضخم بأي ثمن كان. فأي رفع جديد للفائدة الأمريكية، يعني مزيدا من الضغوط على الاقتصاد العالمي كله، وبعض الانفراجات - وليس كلها بالطبع - على الساحة الأمريكية، ترتبط تحديدا بزيادة تلقائية للتدفقات الاستثمارية إلى الساحة الأمريكية.
حتى الآن، انخفضت توقعات المستهلكين للتضخم الأمريكي في الأعوام القليلة المقبلة، وفق مسح جديد أجراه "الفيدرالي الأمريكي". وهذه نقطة مهمة جدا على الساحة المحلية، التي تعاني ارتفاعا كبيرا في تكاليف المعيشة، وضغوطا حياتية أثرت سلبا في شعبية الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، وحزبه الديمقراطي الذي يستعد للانتخابات النصفية في أقل من ثلاثة أشهر.
والحق أن ما توصل إليه المسح المذكور يثير الاهتمام كثيرا، لأنه خفض التوقعات للتضخم من 3.6 في المائة في الشهر السابق إلى 3.2 في المائة، وهي نسبة تراجع كبيرة. في حين تراجعت توقعات التضخم للعام المقبل إلى 6.2 في المائة من 6.8 في المائة، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى انفراج "ولو مرحلي"، سينعكس مباشرة على الاقتصاد العالمي، وسيعزز بعضا من اليقين المفقود في الوقت الراهن.
الهم الرئيس حاليا على الساحة الأمريكية، يكمن في دفع الركود عنها، حتى لو استمر التباطؤ فترة طويلة. والرفع المتواصل للفائدة سيزيد بالتأكيد من احتمال وصول الركود، رغم أن هذا الاقتصاد انكمش بالفعل في الربعين الأول والثاني من هذا العام.
وعلى صعيد الأسواق العالمية، تفضل دائما عملة أمريكية ليست مرتفعة، للإبقاء على زخم التدفقات المالية لها، ولتخفيف أعباء ديون الدول المقومة في أغلبها بالدولار. فقد نزحت مئات المليارات من الدولارات عن عديد من الدول في أعقاب رفع "الفيدرالي" الفائدة، فضلا عن الارتفاعات الهائلة لتكاليف الديون.
ومن هنا، فإن التوقف عن رفع الفائدة الأمريكي ليس إلا أداة محفزة للاقتصاد العالمي في هذا الوقت بالذات.
وأسهم في تخفيف أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة، تراجع أسعار الطاقة في الفترة القصيرة المقبلة. وهذا يعد من أكثر الضغوط التضخمية، سواء في أمريكا أو في بقية دول العالم. ورغم المشكلات الناجمة عن اضطراب سلاسل التوريد، إلا أن أسعار المواد المعيشية الأخرى تراجعت أيضا، وإن بنسب متواضعة، فالتأثير النفسي في أي مرحلة حرجة يعد عاملا أساسيا أيضا. وإذا ما صدقت التوقعات بانخفاض أكثر استدامة لأسعار المستهلكين، فإن "الفيدرالي" على الأرجح سيعيد النظر في سياسة وآليات الاستمرار في رفع الفائدة في الأشهر المتبقية من العام الجاري، فالهدف الرئيس للإدارة الأمريكية بعد هدف التضخم، هو المحافظة على النمو بصرف النظر عن نسبته، لأسباب اقتصادية وسياسية أيضا، بما في ذلك دعم سوق التوظيف، التي تمثل بحد ذاتها مؤشرا محوريا للحراك الاقتصادي العام.
لكن ورغم كل هذه المعطيات، لا بد من الإشارة إلى أن مستوى التضخم الأمريكي الذي بلغ 9 في المائة، لا يزال أعلى بكثير من المعدل المستهدف من قبل المشرعين في البلاد، المحدد بـ0.2 في المائة، ما يطرح سؤالا مهما، يتعلق بمدى صعود أسعار المستهلكين حاليا. وتبقى مخاوف وهواجس الركود التضخمي هي المسيطرة على الأسواق ما لم يطرأ تغيرات جوهرية في أزمة الأسعار وعودتها إلى ما كانت عليه إن لم يكن أقل من ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي