ثقافة وفنون

رمزية اللون .. التمييز خلف قوالب لغوية مقبولة

رمزية اللون .. التمييز خلف قوالب لغوية مقبولة

تشكيل ثقافة جديدة تبدأ بتقبل بساطة الألوان وتنوعها أولا، ثم في تقبل الآخر.

ماذا يحدث في ذهنك حينما تقرأ كلمة "أسود" دون أي سياق. أي المعاني تحضر في ذهنك أولا هل هي معان إيجابية أو معان سلبية؟ الكلمة السابقة هي بمنزلة اختبار ذاتي بسيط لاكتشاف المعجم الذهني الخاص بك الذي قد يعطيك نتائج متوازنة بين الجانبين أو يميل إلى أحدهما دون الآخر. ولن يتضح لك معنى أي كلمة إلا حين تضعها مجاورة لكلمة أخرى من معجمك الذهني، "تاريخ أسود، ثوب أسود، ملف أسود، قلب أسود، يوم أسود، فعل أسود..."، ثم جرب مرة أخرى استبدال اللون الأسود باللون الأبيض، وتأمل كيف تحول معنى العبارات.
تبحث اللغة دائما عن تفسير طبيعي يمكنه أن يندرج في إطار فهمنا للعالم الفيزيائي. وذلك بالتعامل مع اللغة والذكاء والوعي والتفاعل الاجتماعي والثقافي. حيث يتحدد معنى الكلام في الذهن بتأثير المحيط الطبيعي لجسد الإنسان، لأن المعنى بنية تصورية متفاعلة مع محيط المتكلم وحضوره المادي. ولا يمكن أن نفهم اللغة خارج سياق التجربة الإنسانية، لأن أنظمتنا التصورية في اللغة تتولد من تجربتنا الحسية الجسدية، وتكتسب المعنى من خلالها. وبما أن العقل يشكله إحساس الجسد، وما تدركه العين من الألوان هو علامات دالة مرتبطة بالتجربة الحسية للإنسان. ودلالة كل لون تستحضر التجربة الثقافية الخاصة بكل لغة. فاللون لا يدل من لفظه على معنى محدد ومستقل وإنما مرتبط بكامل التجربة البشرية.
فقد تظهر العنصرية في اللغة في تجليات واضحة لكنها في أحيان كثيرة تتخفى خلف قوالب لغوية مقبولة، إننا قد ندعو إلى نبذ العنصرية ضد أي فئة في المجتمع وتحديدا هنا ضد أصحاب البشرة السوداء. لكن لغتنا تفضح دواخلنا التي نخفيها عن الآخرين دون شعور، وتظهر في تعبيرنا حين نقول، " قلبه أسود" كناية عن سوء السريرة. أو نقول: " قلبه أبيض" كناية عن النقاء وسلامة النية. وكل صفات السوء نلونها باللون الأسود، "ملفه أسود، تاريخه أسود، في القائمة السوداء... إلخ". وحين ندعو بالخير لأحد نقول، "بيض الله وجهك"، وحين ندعو عليه بالشر نقول، "سود الله وجهك". وفي اللغة الإنجليزية Blacklist تعني قائمة بأسماء الأشخاص المرفوضين والمقاطعين أو المعاقبين، أو قائمة بأسماء الأشياء المحظورة أو المستبعدة ذات السمعة السيئة، وBlackmail تعني الابتزاز، وBlack sheep تقال للشخص المنبوذ في مجموعة ما، وBlack market تقال للسوق التي يتداول فيها سلع غير قانونية أو التعاملات التجارية الخارجة عن القانون. وفي المقابل الملاك أبيض White angel والشيطان أسود Black devil، ويقال للكذبة الصغيرة غير المؤذية White lie.
دائما ما تكشف لغتنا غير المقصودة ما نحاول أن نخفيه بلغتنا المقصودة، فاللغة تعرف عن الإنسان أكثر مما يعرف هو عن نفسه. واللغة لا تخون، وإنما تفضح وتكشف. وفي رأيي أن التعبير بالسوء عن اللون الأسود أو الخوف منه ربما كان مؤشرا على الطفولة الفكرية التي تربط اللون الأسود في اللغة بالظلام والخوف من المجهول. أو بمعنى آخر أن النضج الفكري يجعل إدراكنا للألوان أكثر تنوعا وقبولا. دون رهبة من الألوان القاتمة التي ترتبط بخوف الإنسان من الظلام والمجهول، ولا رغبة كبيرة في الألوان الزاهية. لأن اتساع الإدراك لما نشعر به من دلالات حسية لهذه الألوان يجعلها أكثر قبولا، ويجعلنا أكثر فهما لدلالتها وما تحيل عليه من معان مختلفة. بعيدا عن الإدراك القاصر على السواد مقابل الشر، والبياض مقابل الخير.
ومما يؤكد ارتباط اللون الأسود في اللغة العربية بالظلام والخوف من المجهول حين تعود إلى المعجم العربي تجد أنه يعرف الألوان بتقديم تحليل عام للكيفية التي يفهم بها الناس الألوان، أو يعرف اللون بضده، أو من خلال استعارات نسقية مثل، الأسود ظلام، الأبيض نقاء، والأخضر رخاء. أو الأحمر الأعجمي، والأسود الجني، والسواد الكثرة.. إلخ. يقول ابن منظور في مادة "س و د" "السواد: نقيض البياض.. وسواد القوم: معظمهم." فقد اكتسب اللون الأسود دلالته من البيئة العربية من ظلام الليل، ثم استعاروا استخدامه في كل شيء يشبهه؛ فكل شيء غاب عنه النور واختفى لونه وشكله ولو بصورة جزئية. صار أسود. فيقال: "مرت بنا أساود من الناس.. هو الشخص لأنه يرى من بعيد أسود.". فحين نتأمل السياقات التي يذكر فيها دعاء، "بيض الله وجهك"، نرى أن هذه المقولة لا تقتصر على الدعاء للون بشرة معينة، إنها لا تتعلق مطلقا بلون البشرة، وإنما بمشاعر الفخر والمعرفة بفعل الخير بين الناس. فسواد الناس من بعيد لا يكون فيه الشخص معروفا، لأن الشخص لا يمكن التعرف عليه ولا رؤيته مع كثرة الناس، أو من بعد المسافة يصعب معرف هوية الشخص أو رؤية ملامحه. ولذلك ندعو لكل ألوان البشرة بقولنا، "بيض الله وجهك".. أي "جعلك الله معروفا بين الناس بأفعال الخير".
وختاما، إن إدارة الملفات المختزنة في أذهاننا والمرتبطة بالآفاق الإدراكية لكل لون تمكننا من المساهمة في تحسين الثقافة السائدة نحو الألوان المختلفة. وحين نوجه الإدراك نحو التنوع اللوني وتصنيفه دون اتخاذ موقف سلبي أو عنصري نحو أي لون يكون التعامل معها بنضج فكري يصنف الألوان حسب تنوعها، دون إصدار أي أحكام طفولية ضد أي لون بناء على مخاوف إدراكية قديمة متعلقة بالظلام والنور، والدعوة هنا إلى تداول أسماء الألوان في سياقات غير عنصرية بطريقة لا واعية تسهم بصورة غير مباشرة في تشكيل ثقافة جديدة تبدأ بتقبل بساطة الألوان وتنوعها أولا، ثم في تقبل الآخر وتنوع ألوانه تاليا بشكل تلقائي.
* أستاذ اللسانيات في جامعة الأمير سطام
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون