FINANCIAL TIMES

معركة السياسة النقدية .. مسألة أسعار الفائدة

معركة السياسة النقدية .. مسألة أسعار الفائدة

معركة السياسة النقدية .. مسألة أسعار الفائدة

عاد التضخم. أدى ارتفاع الأسعار إلى وضع "أزمة تكلفة المعيشة" على جداول الأعمال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. بشكل حتمي، أدى ذلك إلى تسليط الضوء على البنوك المركزية والسياسة النقدية. لكن الخلافات حول كليهما ليست جديدة. على العكس من ذلك، في حين تتغير المشكلات، يظل الجدل حول أفضل السبل لاستدامة الاستقرار النقدي والمالي. على الرغم من الانتهاء منهما قبل عودة التضخم، إلا أن كتابين أوردا وجهات نظر متضاربة بشدة حول القضايا الأساسية.
في الزاوية الأرثوذكسية المتشددة يقف بن برنانكي، محافظ الاحتياطي الفيدرالي من 2002 ورئيسا لمجلس إدارته منذ 2006 حتى 2014، وهي الفترة التي حدثت فيها الأزمة المالية العالمية بين 2007 و2009. يمكن القول إن برنانكي هو المفكر والممارس الأكثر تأثيرا في مجال البنوك المركزية في عصرنا. يقدم كتابه، السياسة النقدية في القرن الـ21، وصفا واضحا لتطور البنوك المركزية والبنك المركزي الأمريكي من "التضخم العظيم" في أواخر الستينيات والسبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي إلى اليوم وفي المستقبل.
في الزاوية المقابلة يقف إدوارد تشانسلور، مؤرخ، ومدير أصول، وصحافي ومؤلف. يقدم كتابه، ذا برايس أوف تايم "ثمن الوقت"، تاريخ أسعار الفائدة الذي يعود إلى عهد البابليين إضافة إلى الجدل حول شرعية المطالبة بها على الإطلاق. مع ذلك، فهو في الأساس جدال ضد كل ما يمثله برنانكي. بالنسبة إلى تشانسلور، فإن سعر الفائدة هو "ثمن الوقت" - السعر الذي به ينبغي تعديل الأموال التي يتوقع المرء أن يتسلمها أو يدفعها في المستقبل إلى سعر اليوم. يؤكد أنه تحت تأثير أشخاص مثل برنانكي، كانت أسعار الفائدة منخفضة للغاية لفترة طويلة جدا، وكانت النتائج مدمرة.
يقف وراء كل منهما معلم مختلف. بالنسبة إلى برنانكي، فذلك المعلم هو جون ماينارد كينيز، الاقتصادي البريطاني الرائد. كما يلاحظ، "يظل الاقتصاد الكينيزي، في شكل محدث، هو النموذج المركزي في الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى". الهدف الرئيس للسياسة النقدية، إذن، هو تحقيق التوظيف الكامل والمحافظة عليه.
إذا كان التضخم يميل إلى الارتفاع، فيجب أن يكون الطلب قويا للغاية، وإذا كان منخفضا جدا، فيجب أن يكون الطلب ضعيفا للغاية. بالتالي، هذا يجعل التضخم هو أفضل هدف وسيط للسياسة. لكن لا يجب أيضا أن يكون هذا الهدف قريبا جدا من الصفر، سيكون لدى البنوك المركزية مساحة صغيرة جدا لخفض أسعار الفائدة استجابة للركود. هذا هو "الفخ" الذي وقعت فيه اليابان في تسعينيات القرن الماضي التي واجهت صعوبة بالغة في تجنبه.
يستكشف كتاب برنانكي ثلاث حقائق أساسية للعقود الماضية. الحقيقة الأولى هي استجابة التضخم بشكل مدهش للتغيرات التي طرأت على البطالة في الأعوام الأخيرة. في الماضي، كانت مستويات البطالة المنخفضة تميل إلى رفع الأسعار بشكل أسرع. الثانية هي "الانخفاض طويل الأجل في المستوى العادي لأسعار الفائدة"، ويرجع ذلك جزئيا إلى انخفاض التضخم لكن أيضا بسبب الانخفاض طويل الأجل في أسعار الفائدة الحقيقية. الحقيقة الثالثة هي "الخطر المتزايد لانعدام الاستقرار المالي النظامي" في عالمنا المالي المعولم والمتحرر.
فيما يتعلق بالسياسة، يوضح برنانكي، أن أسعار الفائدة قصيرة الأجل كانت قريبة جدا من الصفر، أو وصلت إليه، أو حتى، في بعض الحالات، انخفضت إلى ما دون الصفر في أعقاب الأزمة المالية العالمية وأزمة منطقة اليورو اللاحقة. دفع هذا بنك الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية نحو مجموعة من السياسات "غير التقليدية"، بما في ذلك عمليات شراء الأصول على نطاق واسع "المعروفة عموما باسم التيسير الكمي" و"التوجيه المسبق" بشأن السياسة النقدية المستقبلية.
بشكل عام، يصر برنانكي على أن الاحتياطي الفيدرالي نجح في منع حدوث كساد كبير آخر وإعادة الاقتصاد الأمريكي إلى النمو. أتفق معه في ذلك.
أما تشانسلور فلا يتفق معه قطعا. معلمه هو فريدريك حايك، أحد معاصري كينيز، وشخصية بارزة في مدرسة الاقتصاد النمساوية "للسوق الحرة" ومعارض للبنوك المركزية. كان حايك أيضا أحد أنصار تفسير حالات الكساد بأنها ناجمة عن "سوء الاستثمار" في حالات الكساد، الذي وفقا له، فإن الركود يمثل التطهير الضروري للأخطاء السابقة.
خسر حايك الجدل حول الاقتصاد الكلي في ثلاثينيات القرن الماضي وانتقل إلى الاقتصاد السياسي، ولا سيما مع كتاب ذا رود تو سيرفدوم، الذي نشر 1944، الذي وجد دعما من مارجريت تاتشر. لكن تشانسلور يؤمن بمبدأ حايك في الثلاثينيات. حيث يشجب أسعار الفائدة المنخفضة التي تعتمدها البنوك المركزية على أنها أصل جميع الكوارث الاقتصادية تقريبا.
تعد أسعار الفائدة شديدة الانخفاض بالنسبة إليه النتيجة الضارة لعقيدة استهداف التضخم الزائفة. يشتكي قائلا، "لا يهم أن أسعار الفائدة الصفرية تثبط المدخرات والاستثمار وتضعف نمو الإنتاجية. ولا يهم أن أسعار الفائدة المنخفضة للغاية، من خلال إبقاء شركات الزومبي على أجهزة الإنعاش، أدت إلى بقاء أقل الشركات جدارة. فضلا عن أن سياسات البنوك المركزية أسهمت في زيادة عدم المساواة، وقوضت الاستقرار المالي، وشجعت تدفقات رأسمال "الأموال الساخنة"، وعززت كثيرا من فقاعات أسعار الأصول بداية من الشقق الفاخرة إلى العملات المشفرة".
هل لائحة الاتهام هذه منطقية؟ ليس كثيرا.
أسعار الفائدة المنخفضة لها تأثيرالإحلال وتأثير الدخل، الأول يقلل جاذبية الادخار، بسبب العوائد المنخفضة، لكن الثاني يجعل من الضروري ادخار مزيد لتعويض انخفاض العوائد. يقتبس تشانسلور نفسه عن راجورام راجان، المحافظ السابق لبنك الاحتياطي الهندي، قائلا إن "المدخرين يضعون مزيدا من الأموال جانبا عندما تنخفض أسعار الفائدة من أجل تحقيق المدخرات التي يعتقدون أنهم سيحتاجون إليها عند التقاعد". نتيجة أسعار الفائدة المنخفضة بالنسبة إلى معدلات الادخار الإجمالية غامضة ببساطة.
مرة أخرى، يصر تشانسلور على أن أسعار الفائدة المنخفضة تثبط الاستثمار، رغم أنه يؤكد أنها تحفز الإقدام على المخاطرة. إذن، لماذا لا تشجع على مزيد من الاستثمار المجازف؟ بيئة أسعار الفائدة المنخفضة، في النهاية، بيئة يكون فيها التمويل، بما في ذلك تمويل الأسهم، رخيصا. إذا وجدت فرص استثمارية جيدة بالفعل، كما يصر تشانسلور، فلماذا تكون أسعار الفائدة المنخفضة عقبة مانعة لتمويلها؟
قد تكون نجاة "شركات الزومبي" تفسيرا جزئيا. لكن ينبغي أن تكون الشركات الفاعلة قادرة على التغلب على شركات الزومبي فيما يتعلق بالموظفين والموردين والعملاء. علاوة على ذلك، ينبغي أن تتمكن الشركات القادرة على تغطية تكاليفها المتغيرة من النجاة. من الصحيح، أنه إذا أغلق المرء معظم الشركات ذات الإنتاج المنخفض، فسترتفع إنتاجية الموظفين الذين يحتفظون بوظائفهم. لكن إنتاجية القوى العاملة الإجمالية ستنخفض، وهذه صفقة سيئة.
مرة أخرى، الحجة القائلة بأن أسعار الفائدة المنخفضة تزيد من عدم المساواة هي حجة مضللة للغاية. حتى مضاعفة ثروة أصحاب المليارديرات ليس له أي أهمية حقيقية بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يملكون شيئا. بالتالي، وفقا لتعداد سكان الولايات المتحدة في 2020، كان متوسط صافي ثروة أفقر 20 في المائة من الأسر الأمريكية سالب 6،029 دولارا، ومتوسط صافي ثروة الـ20 في المائة التالية كان 7،263 دولارا فقط. ما يهم هؤلاء الناس ليس مدى ثراء إيلون ماسك، لكن ما إذا كانوا يملكون وظيفة بالفعل. الاستجابات الفاعلة من جانب البنوك المركزية للركود تساعدهم على تحقيق ذلك. إذا كان تشانسلور مهتما حقا بعدم المساواة، فماذا عن الحملات التي تطالب بفرض ضرائب على الثروة؟
كما أن لدى تشانسلور شكاوى كثيرة حول تأثير أسعار الفائدة المنخفضة في عدم الاستقرار والهشاشة المالية. مع ذلك، من غير المرجح أن أسعار الفائدة المرتفعة بشكل متواضع التي يوصي بها كانت ستنقذ العالم من الأزمات المالية. عالم أمريكا في القرن الـ19، دون بنوك مركزية، شهد كثير منها. لهذا السبب تم إنشاء الاحتياطي الفيدرالي في أوائل القرن الـ20.
قبل كل شيء، ما هو بديل المؤلف لأسعار الفائدة المنخفضة التي يمقتها؟ الكساد. بالفعل، يصر على أن "الاقتصاد العام يستفيد من جرعة الاضطرابات هذه". يبالغ إلى حد الاستشهاد بأندرو ميلون، وزير الخزانة في فترة حكم هربرت هوفر، الذي نصح رئيسه بشكل مقيت "بتصفية العمالة، وتصفية الأسهم، وتصفية المزارعين، وتصفية العقارات". ربما أضاف ميلون عبارة "تصفية الديمقراطية". في ألمانيا، نجح المستشار هاينريش برونينج في تحقيق ذلك تماما عندما مهد الأمور لهتلر.
يشدد تشانسلور على أن الفقاعات رهيبة. أما البطالة الجماعية؟ جيدة.
باختصار، أثار تشانسلور جدالا محموما وغير متوازن. مع ذلك، هذا لا يثبت تماما صحة وجهة نظر برنانكي الإدارية. أعطانا ويليام وايت، كبير الخبراء الاقتصاديين السابق في بنك التسويات الدولية، وكلاوديو بوريو، الذي لا يزال يعمل هناك "تم الاستشهاد بهما من قبل تشانسلور" بالفعل تحذيرات واقعية وأحيانا متبصرة بشأن المخاطر المالية التي بدأت التراكم.
المشكلة الأساسية هي أن لدينا هدفين للسياسة، استقرار الاقتصاد الحقيقي على المدى القصير إلى المتوسط واحتواء المخاطر المالية. لا يمكن إحراز هدفين بأداة واحدة. تتمثل الخيارات إما في تقسيم تركيز السياسة النقدية بين الهدفين بطريقة ما وإما استخدام أدوات أخرى، مثل التنظيم "لإدارة التمويل" أو السياسة المالية "لإدارة الطلب".
فاعلية الأداة الأولى، التي يطلق عليها أحيانا "الاتكاء على الريح"، غير واضحة. قد تكون الزيادات المعتدلة في أسعار الفائدة قد أعطتنا أسوأ ما في العالمين - الانكماش والرغوة المالية المستمرة. مع ذلك، فإن التنظيم الأكثر صرامة، على الرغم من أنه ضروري، سينشئ فرصا للمراجحة، حيث يجد اللاعبون المتحمسون طرقا للتغلب عليها. في الوقت نفسه، لم تستخدم الحكومات السياسة المالية النشطة بشكل جيد، ما يشير إلى أن السياسة النقدية ستظل ضرورية لتوجيه الاقتصاد.
بشكل مباشر، فإن السؤال المطروح هو ما إذا كان التضخم المرتفع اليوم ينذر بتحول جوهري في بيئة السياسة النقدية من بيئة تضخم منخفض إلى شيء أشبه بالسبعينيات. بالفعل، فإن أحدث مراجعة لسياسة الاحتياطي الفيدرالي، مع تركيزها في ظل الأحداث الحالية على متوسط معدلات التضخم السابقة، عفا عليها الزمن تماما. مع ذلك، من غير الواضح إلى أي مدى أدت الصدمات التي حدثت خلال العامين ونصف العام الماضيين إلى تغيير بيئة السياسة بشكل دائم.
برنانكي محق، التيسير الكمي استجابة للـ"الركود العظيم" لم يسبب التضخم المفرط الذي حذر منه كثيرون على نحو خاطئ. كان الخطأ المتعلق بالتضخم أقرب حداثة وقابلية للتفهم وأكثر تواضعا. كان يتألف من عدم الاعتراف في وقت مبكر بما يكفي بحجم الزيادة في المعروض من الأموال على نطاق واسع في 2020 استجابة لأزمة كوفيد - 19 وانتشار اضطرابات الإمدادات وقوة الانتعاش.
الحل الأمثل للسياسة النقدية هو الكأس المقدسة للبنوك المركزية. لكن، مثل الكأس، من غير المحتمل أن يتم العثور على الحل على الإطلاق. في الوقت نفسه، لن يقبل الجمهور العودة إلى رأسمالية القرن الـ19 في الولايات المتحدة، حتى دون البنوك المركزية. سنستمر في إدارة الأموال والتمويل، ولن نعود إلى معيار الذهب أو نعتمد البيتكوين والعملات المنافسة لها كحلول.
اليوم، يبدو استهداف التضخم المدعوم من قبل برنانكي النهج الأقل سوءا. لكن السؤال يظل أيضا يتعلق بأفضل السبل لاحتواء المخاطر المالية التي أكدها تشانسلور. إن الشاغل الأكبر، كما نعلم، هو الاتجاه نحو التوسع غير المكبوح للائتمان وكذلك الديون. التنظيم جزء من الحل. لكن أهم مصدر هيكلي للرافعة المالية المفرطة هو الخصم الضريبي على الفائدة. ينبغي أن نتخلص من ذلك الآن.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES