Author

الحرب في أوروبا تفرز تبعات قاهرة

|
أستاذ جامعي ـ السويد
يبدو أن الغرب بدأ يتحسس أن الحرب في أوكرانيا والحصار شبه المطبق الذي فرضه على روسيا له تبعات قاهرة من العسر تحملها. وهناك أكثر من دليل أن الدول الأوروبية صارت تلجأ إلى خطاب غير الذي استخدمته لوصف سير المعارك في أوكرانيا في الأشهر الأولى للحرب.
العمليات العسكرية لم تعد تأخذ الصدارة، وحلت محلها أخبار الحرائق ودرجات الحرارة غير المسبوقة التي شهدتها عدة دول في هذه القارة ولأول مرة. حتى الحرائق، رغم اتساع مساحتها وخروجها عن السيطرة في بعض الدول لم تنل من الاهتمام الذي يحظى به الشتاء المقبل.
العيون منصبة على ما يخبئه الشتاء، الذي سيكون، وحسب متنبئي الأحوال الجوية، من القسوة والبرودة في مكان ما يفوق ما تعانيه القارة حاليا من أشعة الشمس المحرقة ودرجات الحرارة التي كسرت كل الأرقام القياسية السابقة، ليس بجزء من الدرجة الواحدة، بل بدرجة ونصف أو ربما أكثر.
نقرأ في الصحف أن لحسن حظ أوروبا أن روسيا دشنت حربها في أوكرانيا في مستهل الربيع. ماذا كان سيكون الوضع عليه لو أن الحرب مع ملحقاتها من المعارك حول الطاقة، وعلى الخصوص الغاز، اندلعت وأوروبا على أبواب الشتاء؟ أسئلة مثل هذه وغيرها تدور حتى على ألسنة الناس العاديين.
وإن أخذنا الخطاب معيارا لعكس الواقع الاجتماعي، وهذا دأبنا، لرأينا استخدام مفردات تثير الهلع والخوف من المقبل من الأيام.
في تقرير مطول نشرته مجلة "الإيكونيميست" المؤثرة والشهيرة، وتحت عنوان "شتاء أوروبا المقلق"، تناثرت مفردات مثل الأزمة والكارثة والتخبط وغيرها في ثنايا التقرير الذي زاد حجمه عن ستة آلاف كلمة.
قدمت "الإيكونيميست" صورة قاتمة للشتاء المقبل في أوروبا، حيث ليس في الأفق ما يشير إلى أن القيادات السياسية الحالية في إمكانها العمل معا لدرء المخاطر الناتجة عن تبعات الحرب في أوكرانيا والحصار الخانق الذي فرضه الغرب على روسيا.
وبالطبع، كان موضوع الطاقة من أهم الموضوعات في المقال، وأبدعت "الإيكونيميست" في سكها لما أراه مصطلحا جديدا في الإنجليزية حيث لصقت فيه مفردة الـgas "غاز" مع مفردة catastrophe "كارثة". وتمخض تزاوج الكلمتين مصطلحا يصف الحالة وصفا دقيقا وهو gastastrophe. اللغة العربية لغة اشتقاق وليست لغة لصق، لكن إن أردنا أن نعرب المصطلح الجديد، قد تكون عبارة "كارثة الغاز" أقرب ما يمكن.
لا يفتأ الحديث عن شح الطاقة وأسعارها المرتفعة. وإن علمنا أن الدول الأوروبية الغربية كانت ولا تزال تعتمد على روسيا لتزويدها بالطاقة، عندها نصل إلى كنه القلق لدى "الإيكونيميست" من الشتاء المقبل.
للتو تيقنت دولة عظمى مثل ألمانيا أن معجزتها الاقتصادية ارتكزت في كثير من الأوجه على الغاز الرخيص والمتناول الذي كان يتدفق عليها وبكميات كبيرة من روسيا ويشحن عجلة مصانعها الضخمة ويمكنها من تصدير مواد صناعية بلغت قيمتها في العام الماضي أكثر من 1.3 تريليون دولار.
الغربيون مولعون بتقديم السيناريوهات وخطة باء إن لم تفلح الخطة ألف، ولم يخل مقال "الإيكونيميست" منها، بيد أن أحلاها فيه من المرارة ما يفقده ذوقه العسلي.
والمرارة ظاهرة في خطاب الساسة والمسؤولين الذين يرددون بين الفينة والأخرى لماذا وكيف وصل الأمر بهم إلى ما هم عليه الآن؟.
أين هي الاستثمارات الهائلة في الطاقة المتجددة؟ هذا هو السؤال الذي يثيره عديد من المفكرين والصحافيين.
السيناريو الذي تحقق على أرض الواقع في أوروبا، والذي لم يكن في الحسبان، هو أن النصر باين في هذه الحرب إكليله، وربما لن يتوشح به أي من الطرفين المتصارعين، حيث خطفه منهم الوقود الأحفوري الذي طالما استخفوا به وأهانوه.
وهناك أكثر من جرد حساب، وكل جرد يأخذ أسعار الغاز في عين الاعتبار عند مقدم الشتاء.
تقديرات وتخمينات لما سيكون عليه الوضع كثيرة ومتشعبة، والحلول متعددة، لكن تطبيقها عسير بعسر الحصول على الغاز لملء الخزانات الضخمة تحت الأرض لدرء طوارئ الشتاء.
كيفما جرى الحساب، فإن فاتورة الكهرباء والتدفئة والوقود قد تصل إلى أكثر من 4500 دولار في العام لأصحاب الدخل المحدود. في ألمانيا مثلا، هناك يقين أن أغلب الناس لن تتمكن من تغطية تكاليف التدفئة والكهرباء لو بقيت أسعار الغاز على ما هي عليه حاليا.
وعندما سئل وزير المالية إن كان في إمكان الدولة دعم أسعار الطاقة ورفع ثقلها عن كاهل أصحاب الدخل المحدود، أكد أن القيام بهذا قد يؤدي إلى إفلاس الخزينة.
إنشرها